عبير شمص
لطالما سعت الجامعات الأميركية إلى تقديم نفسها كنموذج عالمي للحرية الأكاديمية والتعددية الفكرية، لكن مع اشتداد الحرب الإسرائيلية على غزة منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، بدأت هذه الصورة تهتز، مع تسجيل موجة من الإجراءات العقابية والقيود المفروضة على الطلاب والناشطين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني. وفي هذا الصدد حاورت صحيفة الوفاق الخبير التربوي والسياسي اللبناني الدكتور ماجد جابر لرصد أبعاد هذا التحوّل، وقراءة ما يكشفه من مفارقات بنيوية في صلب المؤسسة الأكاديمية الأميركية، وفيما يلي نص الحوار:
الضغوط السياسية المباشرة، مثل تعليق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمنح دراسية بقيمة 400 مليون دولار في تمويل جامعة كولومبيا، تترافق مع ضغوط مانحين نافذين في جامعات مثل هارفارد، ما كشف هشاشة استقلال الجامعات أمام النفوذ السياسي والمالي. أضف إلى ذلك التوسّع في استخدام تهمة “معاداة السامية” كذريعة قانونية لتجريم الأصوات المؤيدة لفلسطين، والاستقطاب الإعلامي الذي صوّر الاحتجاجات الطلابية كتحريض أو دعم للإرهاب.
في المحصّلة، ما حدث لم يكن انحرافًا مؤقتًا، بل انكشاف لبنية سلطوية ناعمة كانت كامنة تحت ستار الحرية الأكاديمية، وظهرت على حقيقتها حين أصبح التضامن مع فلسطين اختبارًا أخلاقيًا فعليًا.
حدود التعبير المقنعة
يشير الدكتور جابر أن الجامعات الأميركية، رغم خطابها المعلن عن التعددية والانفتاح، ترسم خطوطًا حمراء غير معلنة، تتّضح بجلاء عندما يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية. هذه الحدود لا تُعبَّر عنها بالقوانين، بل تُمارَس عبر أدوات ضغط ناعمة وفعالة منها استدعاءات تأديبية، تعليق أنشطة طلابية، تضييق على الفعاليات، وتحذيرات غير مباشرة للأساتذة.
مجموعات مثل Students for Justice in Palestine وJewish Voice for Peace تم تعليقها في أكثر من جامعة، لا لأنها خرقت القوانين، بل لأنها عبّرت عن موقف سياسي “غير مرغوب فيه”.
هذا يُظهر أن الحرية في هذه المؤسسات ليست مطلقة بل مشروطة، وأن الجامعات – حين يتعلّق الأمر بفلسطين – لا تتسامح مع التعدد، بل تُفعّل آليات رقابة تُقصي كل ما لا ينسجم مع السردية المهيمنة.
سلطوية أكاديمية ناعمة
يشرح الدكتور جابر أن القمع الذي طال الطلاب المؤيدين لفلسطين لم يبقَ حدثًا معزولًا، بل خلّف أثرًا عميقًا في المناخ الأكاديمي العام، إذ أُعيد تعريف حدود المسموح والممنوع داخل الحرم الجامعي. ونشأت رقابة ناعمة لكنها فعّالة، تقوم على التخويف غير المعلن، ودفع الطلاب والأساتذة إلى ممارسة الرقابة الذاتية، خشية العقاب أو الوصم أو الإقصاء المهني، وما حدث في كولومبيا وهارفارد وميشيغان من اعتقالات وتعليق أنشطة، أرسل رسالة واضحة أنه ليس كل تضامن مقبول، ولا كل رأي مسموح. وهكذا، تحوّلت الجامعة من مساحة نقد إلى بيئة يتحرك فيها الفكر بحذر شديد، وتحت مراقبة غير مرئية لكنها حاضرة في كل قرار وسؤال وموقف.
وكذلك يرى الدكتور جابر أن ما يحدث اليوم هو تجلٍ لسلطوية أكاديمية ناعمة، تُمارَس باسم الحياد والنظام. إنها سلطوية لا تُعلن عن نفسها، لكنها تُعيد تشكيل الحدود، وتُعاقب من يتخطّاها، وتُربّي طلابًا على الصمت لا على النقد. النتيجة تكون تراجع جسور النقد، وتكريس ثقافة الخوف، وخلق جيل أكاديمي “يتعلّم الصمت” حين تتطلب الأخلاق الكلام.
فلسطين كاختبار لحدود الحرية
يعتبر الدكتور جابر أن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية سياسية، بل مرآة تكشف حدود الخطاب الليبرالي الأميركي حين يُختبَر بجدية. الجامعات التي تتفاعل بحرية مع قضايا أوكرانيا والمناخ والعدالة العرقية، تتحول فجأة إلى مؤسسات حذرة، صامتة، أو حتى قمعية، عندما تُطرَح فلسطين على الطاولة. السبب؟ تركيب معقّد بين التحالف السياسي العميق مع الكيان الصهيوني، وضغوط لوبيات مؤثرة، وخوف إداري من الاتهام بمعاداة السامية، إلى جانب رواية إعلامية مهيمنة تُجرّم التضامن مع الفلسطينيين وتربطه بالإرهاب أو التطرف. هكذا تصبح فلسطين “تابو أكاديميًا”؛ لا لأنها قضية متطرفة، بل لأنها تزعج البنية السياسية العميقة التي تصوغ حدود ما يمكن التفكير فيه بحرية داخل الجامعة.
الانحياز البنيوي للرواية الصهيونية
يوضح الدكتور جابر أن الإنحياز البنيوي ليس صدفة، بل نتيجة هندسة معرفية وتمويلية وثقافية طويلة الأمد داخل الجامعات الأميركية. فالرواية الإسرائيلية ليست فقط مقبولة، بل تُعامل كإطار مرجعي “محايد”، بينما تُحاصر الرواية الفلسطينية وتُجرد من شرعيتها.
السبب يكمن في التحكم بالتمويل البحثي، وبنية البرامج الأكاديمية، وخطاب النشر والمراجعة العلمية، إلى جانب الخوف من الملاحقة الإعلامية والسياسية لأي أكاديمي يتجاوز السردية المألوفة.
حين يصبح الدفاع عن حقوق الإنسان في غزة مخاطرة مهنية، بينما يُعتبر الدفاع عن “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” موقفًا بديهيًا، فنحن أمام انحياز مؤسساتي صلب لا يَظهر فقط في الموقف، بل في البنية التي تنتج الموقف وتعيد إنتاجه باستمرار.
تمييز مؤسسي مقنّع
يُلفت الدكتور جابر إلى أن ما نشهده اليوم ليس مجرد تمييز فردي، بل تمييز أكاديمي ممنهج، يُمارَس عبر سياسات تأديبية وانتقائية صريحة. فبينما يُتاح لطلاب كثر التعبير بحرية عن قضايا مختلفة، يُعامل التضامن مع فلسطين كمخالفة، ويُقابل بالعقوبة والطرد والتجميد وسحب التمويل.
حتى المسارات الأكاديمية تتأثر؛ طلاب يُحرَمون من الإشراف، أبحاث تُرفض، وأسئلة تُمنع من أن تُطرح. إنها سطوة ناعمة تُعيد رسم حدود الشرعية الفكرية داخل الجامعة، وتُقصي الرواية الفلسطينية لا عبر الحوار، بل عبر الإقصاء المؤسسي.
إنه تمييز لا يُعلن، لكنه يُمارَس على كل من يجرؤ على تسمية الاحتلال باسمه، أو يضع “العدالة للفلسطينيين” في عنوان ندوة أو ورقة بحث.
خيانة الدور الأخلاقي للجامعة
يؤكد الدكتور جابر أن الجامعة ليست مجرد منتج للمعرفة، بل حارس للضمير الإنساني، خاصةً في لحظات تتعرّى فيها المأساة، كما يحدث اليوم في غزة. كان يُفترض أن تكون الجامعات الأميركية في طليعة من يرفع الصوت دفاعًا عن حقوق الإنسان، لكنها، في معظمها، تراجعت إلى موقع المتفرج الحذر أو الحارس الأمني.
السكوت، حين يُذبح آلاف المدنيين، ليس حيادًا، بل انحياز سلبي يخون الوظيفة الأخلاقية للجامعة. واللافت أن هذا التخاذل لم يكن بدافع الخوف وحده، بل نتيجة حسابات تمويلية وسياسية طغت على المبادئ، وجعلت الجامعة تفضّل السلامة المؤسساتية على الموقف الأخلاقي. الجامعة التي لا تقف في وجه الظلم، تسقط في أول اختبار أخلاقي، وتتحوّل من منارة فكر إلى جدار صامت من الخذلان.
تصدّع الصورة العالمية
يلاحظ الدكتور جابر أن الصورة التي كانت الجامعات الأميركية تروّجها كرمز للحرية والانفتاح بدأت تتصدّع في أعين العالم، وخصوصًا في دول الجنوب. كيف يمكن لمؤسسة تُعلّم حقوق الإنسان أن تكمم صوتًا يتضامن مع ضحايا القصف؟
الازدواجية في التعامل مع فلسطين بالمقارنة مع قضايا أخرى، كشّفت أن الحرية الأكاديمية في هذه الجامعات مشروطة بالانسجام مع السياسة الأميركية، لا بالقيم الكونية.
وهذا ما يُضعف جاذبيتها الأخلاقية، ويدفع طلابًا وأكاديميين حول العالم لإعادة النظر في نموذجها، بل وفي جدوى الانخراط فيه. فحين تسقط الجامعة في اختبار العدالة، تفقد قدرتها على ادّعاء القيادة الفكرية عالميًا.