حاتم عبدالهادي السيد*
ما الومضة؟ وكيف نعيد انتاجية الذائقة العربية للمتلقى لفن القصة العربية القصيرة وأشكالها التجريبية الحداثية؟ وهل يمكن أن نضيف شكلاً جديداً، أو قسماً قصصياً مغايراً لشكل القصة كما هو الحال في الومضات التي بدأت تنتشر بسرعة البرق ووميضه، وكأنها اشتقت من اسمها سبباً لوجودها وانتشارها بهذه السهولة والسرعة، مستفيدة من تقنيات الحداثة والحاسوب، والشبكات العنكبوتية الكونية وغير ذلك، فأصبحت ذائعة الإنتشار وموجودة كلون أدبي يفرض وجوده – سواء بالسلب أو الإيجاب-، وسواء تقبلتها الذائقة الابداعية الأدبية، أو حتى نقاد الأدب عموماً، أو رفضوها بالكليّة، أو صمت بعضهم ترقّباً لتكوينها وتشكّلها النهائي، أو تناميها، أو حتى تلاشيها وضمورها، وبالتالى يبدأ الإستشراف والتنظير لها، والحكم عليها !! .
ولقد كنا – منذ البداية – مشجعين لهذا الشكل الأدبى الجديد – لا لنكتسب سبقاً أو ريادة، أو لنصبح رواداً ومبتدعين لهذا الشكل مع بعض الكتاب والنقاد القلائل جداً فى مصر والوطن العربى أيضاً، – وإن كان هذا حق أصيل لنا جميعاً – ولم نك نبحث عن شهرة أو مخالفة للواقع – خالف تعرف -، ولكن كان هدفنا منذ البداية تشجيع هذا اللون الحداثى لشكل من أشكال التجريب والتجديد للقصة العربية، وليس بالطبع جنساً جديداً مغايراً لفن القصة، وإلا لما أسميناه “قصة” منذ البداية، أو أردفنا صفة القص عليها: “ومضة قصصية “، وأحسب أننا كنت متيقظين للأمر كي لا نقع في براثن اشكاليات سابقة، وقع فيها نقاد وكتّاب قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر على السواء، وفي النهاية انتصرت التفعيلة، ثم قصيدة النثر لتصبح، الواحدة تلو الأخرى، قسماً مخصوصاً في مضمار الشعرية العربية. وأنا – كما أرى – أنظر للومضة، أو القصة الومضة من هذا الجانب مستفيداً من آراء النقاد في ظهور أشكال جديدة في الابداع الأدبي العربي لنعيد تثوير المنجز الابداعي القصصي العربي من جديد، وليس هذا بدعاً، بل ربما كانت ضرورة ملحة اقتضتها معايير العصر الرقمي والتلاحقات التكنولوجية المتسارعة وشبكات التواصل الاجتماعي والمواقع ووسائل الإتصالات الحديثة كذلك والتي نشرت هذا النوع، أو كانت سبباً فاعلاً بقوة في انتشاره بسرعة البرق، ليتواصل المبدعون في الوطن العربي ويتسائلون عن ماهية هذا الشكل الجديد ليطلقوا أحكامهم أو مواقفهم تجاهه، ونحن – غير معنيين – بمعارك قد تنشب بالطبع من ظهور كل جديد، بين مؤيد ومعارض، لكننا انتصرنا لهذا الشكل الابداعي القصصي الجديد لأننا رأينا اتساقاً مع المعطى الحداثي العالمي في التجديد والسرعة واستثمار الوقت مع التركيز على الشكل والمضمون وجوهر القص، عبر البلاغة العربية ولغتنا العربية ذات الإشتقاقات الثرية، والدلالات الموحية، والآفاق الجمالية والتركيبية التي تشير الى عالمية اللغة، مع ضرورة أ نقدم ونستوعب كل ماهو جديد لنتلاحق مع المنجز الكوني الحداثي للعصر الذي يمور – حتى على سبيل الحياة اليومية – بتجديدات زمنية متلاحقة، ربما كل ساعة، أو ثوان، أو حتى أيام وشهور أيضاً .
ان ضرورة العصر الرقمي والمنجز التقني باحداثياته وتجديداته قد جعلت الضرورة ملحة لإنتاجية أشكال جديدة تستوعب الفكر المتلاحق: في الشكل والمضمون، مع اختصار الزمنية أو لغة السرد، والتركيز على تقنيات تركيبة، أو اشارات موحية، أو ومضات شذرية تحيل الابداع الى الماحات، أو مشهدية معينة _ مشاهداتية -، دقيقة جداً، ومكثفة، وجميلة بشكل مونق، ومخصوص، بل وبعدد كلمات محددة – وان اختلفنا قليلاً في هذه المسألة كي لا تصاب الومضة بالميكانيكية والجمود – الا أننا نشير الى وجود هذا الشكل الجديد الحداثي المختصر، والذي يميز الومضة عن الابيجراما القصصية، أو القصة القصيرة جداً، أو فن التوقيعات – والتي أشار بعضهم الى أنها امتداد لهذا اللون الابداعي، أو الأوتوجراف، أو البراجراف – على حد التعبير الأوروبي – أو الحكم والأمثال، وأقوال الصحابة والحكماء والفلاسفة، وغير ذلك من الالماحات – غير المسؤولة – من جانب بعض النقاد – كما أرى – والتي قد تلحقها بذيل هذه الفنون، غير ناظرين أو ملتفين الى السمات التكوينية، والاشتراطات الأولية التكوينية الرصينة، للحكم على ماهية هذا الشكل المكتوب، بصورة متأنقة، ومحددة، وبطرائق مخصوصة كذلك .
إن القصة الومضة هي: ” الماحة مكثفة، تصنع وجودها عبر كتابة مخصوصة، أو حالة جمالية ونفسية وتكوينية لعالم ربما يشبه القصة، أو الحكاية المتعارف عليها، في المضمون المكثف جدا – على الأقل -ً لكنها تختلف معها في الصياغة الشكلية الاشتراطية كي لايقع غير العارف بالتفاصيل في بئر المساجلات غير المجدية، أو الحكم بنفي هذا الشكل الجديد والذي – أراه – قد يفتح أفقاً على الكونية العالمية للابداع الجديد الذي يسعى الى اعطاء المعلومات، أو رسم صورة العالم والمجتمع والكون والحياة من خلال كبسولات أو شذرات أو ومضات، أو قطرات الندى، أو الدم: “قطرات من الدم تبين الفصيلة”، أو غير ذلك من الصور التقريبية – التي نصوغها افتراضاً هنا – للتأطير لهذا الشكل الجديد الذي شاركنا مع قليلين جداً في الوطن العربي في ابتداعه، ثم سقينا تربته، وطرحناه للرأي النقدي للحكم على مدى امكانية وجوده من عدمه، وللأمانة فقد وجدنا استقبالاً عظيماً فاق توقعاتنا من جانب المبدعين المجربين، ولقد تحقق لنا الكثير مما كنا نصبو اليه، لذا كانت المسؤولية كبيرة على كاهل نقاد هذا النوع الجديد – وهم قلة في الوطن العربي، وسوف نشير اليهم لاحقاً -، لأنهم معنا، ونحن معهم، متشاركين في ريادة استنباط هذا الشكل الجديد للقصة الحديثة، وان اعتبره البعض لوناً جديداً منفصلاً عن القصة العربية، لكننا – بداهة ودون توافقية من جانب النقاد كما أحسب – قد حسمنا المسألة منذ البداية، كي لانقع – كما أرى – في المساجلات والاختلافات التي حدثت من قبل عند نشوء قصيدة التفعيلة، أوقصيدة النثر، أو غيرهما من قبل .
لقد عرّفنا من قبل القصة الومضة بأنه: “الشذرة، أو الإلتماعة أو الاغماضة للحظة البرق الخاطفة، أو الالماحة المكثفة التي تكتب بطرائق مخصوصة لتميزها عن غيرها من الأشكال الابداعية الأخرى، والتي تحوي في تكوينها: العنوان الدال أو المفارق، والمعنى الذي تتقاسمه جملتان، بينهما فاصلة، وينتهيان بنقطة، وتكون المفارقة أو الالتفات عنصراً فاعلاً، مع ضرورة اشتراطية السبب والنتيجة – ان امكن – وان كنت لا أعتمد هذا الشرط كذلك، لأن هذا الشرط – كما أرى – قد يسسب ترهلاً، أو جموداً وميكانيكية، أو استاتيكية لشكل المنجز الابداعي وهذا ما لا نجيزه، علاوة على مخصوصية عدد الكلمات، وحددها الكثيرون بألا تزيد على ثماني كلمات، وإن كنت أزيدها الى عشرة أو الى اثنا عشر كلمة على أقصى تقدير، كما تتميز الومضة بتكثيف المعنى واختزاليته، بما أصطلحه باقتصاديات اللغة المائزة -، واختصار الموضوع الى أقصر وحدة تعبيرية دالة، قد تبدأ بكلمة واحدة أو أكثر، بعد الفاصلة، وقبلها، أي تبدأ بكلمتين للجملتين، وتنتهي كما أوردنا بثمانية عند كثيرين وكما أشرت .
من كل ذلك يمكن أن ندخل الى عالم الومضات، أو القصة الومضة ونحن نعرف اشتراطية الكتابة ومكونات الانتاجية لتلك الخصائص والسمات التي تميز القصة الومضة، كما علينا ان نقر بأن الكتابة المخصوصة تحتاج الى نقاد غير نمطيين بالمرة، ومن هنا أحسب – وهذا رأي لي، يؤخذ ويرد عليه – أن الومضة تصنع ناقدها، ومنهجها، بالقدر الذي وصله منها، أى من الرسالة الدالة، أو الموضوع الموحي المفارق، ومن هنا كانت تشاركية القارىء/ الناقد أكثر الماحاً، وتحتاج عندئذ الومضة إلى ناقد رقيق بالحروف وبالكلمات، وعارف بفقه المعنى وتوالديته واشتقاقاته الرقيقة، وكذلك الدلالات التي تنتج المعنى البعيد من الالماحات الاشارية المكثفة، وتلك لعمرى تحتاج الى دربة ومعرفة بماهية اللغة وترادفاتها العميقة ومعانيها الدافقة التي تندمغ مع ثقافة الناقد، لتصنع ” مكياج النقد الشذري”، أو الغلاف التّصوري البصري للمعاني المختفية وراء ظاهر الألفاظ والايماءات والكلمات الملغزة والمكثفة، أو المختفية في بؤرة الشعور، أو التصورات التي قد تحدثها، كمنمنمات تأخذ العقل لتحدث: “الشّكّة الابداعية العقلية الوامضة” – إن جاز لنا هذا التعبير، لذا فانها تضع العقل في بؤرة اليقظة، في صورة دائرية، او تقاطعية: ” أفقية او رأسية ” – أو تبادلية للأدوار، لتستدعي اللاشعور لديه، أو المواقف المشابهة، أو الأحداث التي قد تعرض لها شخصياً او حدثت لآخرين وحفرت لديه في هامش الشعور، فنراه يعيد انتاجية المعنى التصوري، أو المتشاكل لديه، كل بحسب ثقافته ومواقفه وخبراته، أو من خلال دربته العقلية وقدرته التشخيصية لالتقاط المعاني المتوالدة أو اصطيادها، أو كما وصلته انطباعياً، لا عن طريق العملية السابقة والتي أطلق عليها: التراسل العقلي – من هذه الومضة التي قد تشبه الصدمة، أو الشكًة المباشرة، أو المباغتة والمفارقة على التقدير الأدقّ.
* رئيس رابطة الأدباء العرب و عضو اتحاد كتاب مصر