د.أكرم شمص
مع تصاعد التوترات التجارية العالمية، وتزايد الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لم يعد من الممكن اعتبار السياسة الاقتصادية الأمريكية مجرد سلسلة قرارات محلية. بل باتت هذه السياسات أشبه ببيان سلطوي يعيد تعريف الاقتصاد كأداة للهيمنة، ويفتح تساؤلات جوهرية حول مستقبل النظام العالمي.
في خطوة تعيد إلى الأذهان حقبة الانكماش العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الثانية عن زيادات غير مسبوقة في الرسوم الجمركية، ليس فقط ضد الخصم الاقتصادي الأول، الصين، بل أيضًا ضد الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، مثل دول الاتحاد الأوروبي واليابان وكندا. هذه السياسات التي وصفها ترامب بأنها “تحرير اقتصادي” تعيد إلى السطح شبح الحمائية الاقتصادية الذي سبق أن تسبب في ركود عالمي قبل نحو قرن.
أولاً: أمريكا أولًا… والعالم ضدها؟ النظام التجاري الجديد يتشكل خارج واشنطن
من التعاون إلى المواجهة بينما تنطلق النظريات الليبرالية من مبدأ التبادلية وتوازن المصالح في التجارة، يتعامل ترامب مع الاقتصاد كحلبة صراع. الرسوم الجمركية لديه ليست أدوات تنظيمية، بل أدوات عقابية، وشعاراته الاقتصادية تُصاغ بلغة المعركة: “كل وارد خيانة، وكل تصدير انتصار”.
الحروب الجمركية المتعددة تعزز الشعور بأن الولايات المتحدة قد تخلّت عن قيادتها للنظام الليبرالي العالمي، لصالح رؤية أحادية تركز على “أمريكا أولاً”.
– التركيز على مفردات “السيادة الاقتصادية” يخفي وراءه رغبة في فرض السيطرة.
– رفض ترامب للمؤسسات المتعددة الأطراف كمنظمة التجارة العالمية يعكس ميلًا سلطويًا يتجاوز الاقتصاد.
ثانياً: من الحسابات الاقتصادية إلى المنظور الإيديولوجي
خلف السياسات الجمركية هناك استراتيجية عميقة تقوم على:
– تركيز السلطات الاقتصادية في يد الرئاسة.
– تحويل التجارة إلى أداة تهديد ومساومة.
– تصوير العالم وفق منطق صفري: إما أن تفوز أو تُستغل.
حتى المعادلات التي يستخدمها ترامب لتبرير سياساته (مثل العجز التجاري الثنائي) تفتقر للمصداقية الاقتصادية، لكنها تخدم رواية رمزية قائمة على استعادة الهيمنة.
ثالثاً: ترامب يعيد تعريف التجارة: من العولمة إلى الهيمنة الوطنية
منذ عام 1987، دعا ترامب إلى فرض رسوم على اليابان. اليوم، تحول هوسه إلى عقيدة:
– الرسوم الجمركية لم تعد أداة تفاوض، بل انتقام سياسي.
– الحلفاء لم يُستثنوا: أوروبا، اليابان، كندا… جميعهم في مرمى النيران.
– الصين في مركز العاصفة، لكن الرسالة موجهة للعالم بأسره.
رابعاً: المركنتيلية الرقمية
هي استخدام الدولة لأدوات الاقتصاد الرقمي والتكنولوجي بنفس العقلية التي كانت تُستخدم بها المعادن الثمينة في الماضي: الهيمنة، الاحتكار، وإقصاء المنافسين. وتحت شعار “أمريكا أولاً”، يعيد ترامب إنتاج هذه السياسة بنسخة رقمية:
– العملة لم تعد ذهبًا وفضة، بل بيانات، تكنولوجيا، عملات رقمية.
– لا يرى المنافسة حافزًا للإبداع، بل تهديدًا ينبغي إزالته.
– الهدف: كسر تنافسية الآخرين بدلًا من تعزيز التنافسية الذاتية.
خامساً: ترامب والتجارة بنهج إمبراطوري: بين الذهب المنطلق والدولار المنهك
– خسائر وول ستريت فاقت 6 تريليونات دولار في 4 أيام.
– ارتفاع سعر الذهب، وتراجع الدولار أمام اليورو: مؤشرات على اهتزاز الثقة.
– صعود المخاطر التضخمية، وقلق من ركود عالمي.
سادساً: حروب ترامب التجارية: إعادة تشكيل النظام العالمي أم بداية الانهيار الأمريكي؟
– من سموت-هاولي إلى ترامب في ثلاثينيات القرن الماضي، تسببت تعريفة سموت-هاولي الجمركية في تعميق الكساد الكبير.
– حجم التجارة العالمية تقلص.
– الثقة في النظام المالي انهارت.
– بدأت حينها عملية تراجع الهيمنة الأمريكية.
اليوم، تُستعاد تلك المشاهد بصورة رقمية وحديثة. وإذا لم يُعدل المسار، قد تتكرر الكارثة.
سابعاً: من البيريسترويكا السوفيتية إلى الحروب الجمركية: هل يعيد ترامب كتابة مصير الإمبراطوريات؟
كما فشلت بيريسترويكا غورباتشوف في إنقاذ الاتحاد السوفيتي، قد تفشل “إصلاحات ترامب” في إنقاذ الرأسمالية الأمريكية:
– البيريسترويكا جاءت بعد فساد وتصلب بيروقراطي.
– ترامب جاء بعد تفكك الطبقة الوسطى وهيمنة النخبة.
– النتيجة قد تكون واحدة: انقسام داخلي، فقدان الهيمنة، وتراجع عالمي.
ثامناً: أوروبا… بين الحذر والرد
الموقف الأوروبي يتأرجح بين التهدئة والرد:
– الاتحاد الأوروبي هدّد بإجراءات مضادة.
– فرنسا دعت للحوار وتجنّب الفوضى العابرة للأطلسي.
– الاتحاد يحاول تجنب الانزلاق نحو حرب تجارية شاملة، لكن ضغوط الداخل تتصاعد.
تاسعاً: العلاقات الصينية الأمريكية… نحو العداء الاستراتيجي
– تحولت العلاقات من تنافس إلى مواجهة شاملة.
– الصين تقول إنها سترفع الرسوم الجمركية على السلع الأميركية إلى 125%
– الصين تتقدم بشكوى إلى منظمة التجارة العالمية ضد الزيادات الأخيرة للتعرفات الأميركية
– الدولار يبلغ أدنى مستوياته مقابل اليورو منذ أكثر من ثلاث سنوات
– النفط يتجه لتكبد ثاني خسارة أسبوعية بسبب الحرب التجارية بين أمريكا والصين
– الصين تبحث عن شركاء جدد، وتحالفات بديلة.
– الحرب التجارية تتحول إلى صراع جيوسياسي على قيادة القرن الحادي والعشرين.
عاشراً:إعادة هيكلة التحالفات التجارية وعودة الصين كمحور جذب عالمي
أدى التصعيد الجمركي الذي انتهجته إدارة ترامب في ولايته الثانية إلى زعزعة الثقة في مكانة الولايات المتحدة بوصفها شريكًا تجاريًا موثوقًا، ما دفع قوى دولية، وعلى رأسها الصين، إلى اغتنام الفرصة لتعزيز علاقاتها مع حلفاء واشنطن التقليديين. فقد كثّفت بكين من جهودها لبناء شراكات تجارية مع الاتحاد الأوروبي، والهند، وكندا، ودول جنوب شرق آسيا، مقدّمة نفسها كمدافع عن النظام التجاري العالمي في مقابل السياسات الأمريكية الحمائية. وفي وقت تتجه فيه إدارة ترامب إلى الانكفاء، تروّج الصين لرؤية بديلة تقوم على الانفتاح والتكامل الاقتصادي، رغم التحديات التي تطرحها المخاوف من هيمنة السلع الصينية الرخيصة. من جهة أخرى، بدأت تحركات ملموسة من قبل دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية وحتى الاتحاد الأوروبي نحو تعميق التعاون مع الصين، في ظل تآكل الدور الأمريكي في قيادة التجارة العالمية.
الخاتمة
نظام تجاري عالمي مجزأ وقيادة جماعية بديلة
أمام حالة عدم اليقين التي سببتها الرسوم الأمريكية، بدأت ملامح نظام تجاري عالمي جديد في التشكل، قائم على تحالفات إقليمية وتكتلات مرنة لا تقودها واشنطن، بل تقوم على تقاطع المصالح. برز تكتلان رئيسيان: الأول يضم دول “الأسواق المفتوحة” مثل الاتحاد الأوروبي وأعضاء CPTPP، والثاني يضم “المتحوطين الاستراتيجيين” مثل الهند والبرازيل وتركيا. كلا التكتلين يتوسعان حاليًا عبر تحديث الاتفاقيات وتوسيع الشراكات البينية، مع ميول واضحة لتعزيز العلاقة مع الصين. ورغم استمرار القلق من سلوك الشركات الصينية، فإن انفتاح بكين على الاستثمار ونقل التكنولوجيا جعلها شريكًا أكثر جذبًا من واشنطن. وهكذا، يبدو أن العالم يتجه نحو نظام تجاري متعدد الأقطاب، تتقاسم قيادته قوى كبرى وإقليمية، مع تراجع الهيمنة الأمريكية كمرجعية وحيدة للنظام الاقتصادي العالمي.
وأخيراً تقف الولايات المتحدة الآن على مفترق طرق مشابه لذاك الذي واجهه الاتحاد السوفيتي في الثمانينات. إذا فشلت “إصلاحات ترامب”، قد نشهد انفجارًا سياسيًا أو انهيارًا اقتصاديًا أو حتى تفككًا اجتماعيًا تدريجيًا. وإذا كانت بيريسترويكا غورباتشوف فتحت الباب لانهيار إمبراطورية حمراء، فقد تكون بيريسترويكا ترامب بداية نهاية إمبراطورية الدولار.
إن مصير النظام العالمي قد يُكتب في واشنطن، كما كُتب ذات يوم في موسكو.
ويبقى السؤال: هل ما نشهده هو لحظة تصحيح… أم بداية انهيار؟