الكاتب والباحث اللبناني الدكتور عبد الله عيسى للوفاق:

المقاومة تنتصر بتلاحمها مع بيئتها وتنهزم بانفصالها عنها

خاص الوفاق: عندما تكون المقاومة تعبيراً عن إرادة شعبية وليست مجرد "تنظيم مسلح"، فإن استهداف بيئتها يعززها لا ينهيها، تحدث الهزيمة فقط عندما تنفصل المقاومة عن شعبها

عبير شمص

 

بات جلياً أن العدو الصهيوني لم يحقق أي نصر عسكري حاسم أو إستراتيجي في المواجهات الطويلة والمتعددة والمستمرة مع حركات المقاومة، ويحاول الكيان الغاصب الاستعاضة عن فشل الحسم العسكري بالمؤامرات التي تحاول تفكيك عناصر القوة والصمود لدى المقاومة، والتي يأتي على رأسها توفر بيئة حاضنة تلتف حول المقاومة وتعلن دوماً جهوزيتها للتضحيات، حول هذا الموضوع حاورت الوفاق الكاتب والباحث اللبناني الدكتور عبد الله عيسى، وفيما يلي نص الحوار:

 

 

استهداف البيئة في سياق استضعاف المقاومة

 

يعتبر الدكتور عيسى بأن مجتمعات المقاومة لا سيّما في لبنان وفلسطين، تتألف من كافة الجماعات والأفراد الذين يؤمنون بعقيدة المقاومة وينخرطون في تبنّي رؤيتها وخطابها ويناصرون قيادتها ويؤدّون أدوارهم من مواقعهم المختلفة كأوفياء لانتصاراتها وتضحياتها، وهؤلاء متنوعو الانتماءات الدينيّة والفكريّة والسياسيّة والطائفية والحزبيّة ومن مناطق جغرافية متعددة ومن شرائح عمريّة مختلفة ومستويات اجتماعية واقتصاديّة وعلميّة متفاوتة، وبرساميل ثقافيّة واجتماعيّة ورمزيّة متعدّدة. وبيئة المقاومة منظومة متكاملة من العقيدة والسياسة والاقتصاد والاجتماع، مما يجعل استهدافها صعبًا رغم محاولات تفكيكها، وبقاؤها يعتمد على تجذرها الشعبي وقدرتها على التكيّف مع التحديات. تشتمل على أحزاب وتيارات تدعم المقاومة فكريًا وسياسيًا، وتعمل على تمثيلها في المؤسسات التشريعية والحكومية، ولديها مؤسّسات خيريّة وتعليميّة وفنيّة  تُعزّز ثقافة المقاومة.

 

ويتابع حديثه بالقول:” ومن الأسس الفكريّة والعقائديّة لبيئة المقاومة الرفض المطلق للاحتلال والهيمنة والاستناد إلى الشرعية الدينية للجهاد في سبيل الله والدفاع عن المقدّسات وإلى مفاهيم التحرّر الوطني والقومي والدفاع عن السيادة والأمن الوطني والقومي. والثقة بـ”معادلة القوة” كضامن للتحرير، والإيمان بأن التفاوض دون قوة عسكرية وسياسية فاعلة لن يُجدي (تجربة اتفاق أوسلو كمثال سلبي)، ورفض التبعية للدول المانحة المشروطة، والسعي نحو الاكتفاء الذاتي قدر الإمكان (مثل اقتصاد غزة تحت الحصار، والصمود اللبناني ما بعد صدور قانون قيصر بحصار سوريا وتأثيره على لبنان وتفعيل الأزمة الاقتصاديّة المستمرة منذ عام 2019  في لبنان) .وقد واجهت هذه المجتمعات وهذه البيئة الحصار الاقتصادي والعقوبات الأميركيّة والغربيّة الصادرة لتصنيف حزب الله أو حركة حماس كـ”إرهابيين”، كما  لم تسقط في مصيدة الاستهداف الإعلامي لمحاولة تشويه صورة المقاومة وعزلها عن الجماهير، ولم تنهزم أمام الاختراق الأمني لمحاولة تفكيك بنية المقاومة وبيئتها التحتية، فضلًا عن العدوان والاحتلال والإبادة والتهجير واغتيال القادة والحرب النفسيّة وما إلى ذلك. وهي تتسلح بالدرس التاريخي الذي يقول عندما تكون المقاومة تعبيراً عن إرادة شعبية وليست مجرد “تنظيم مسلح”، فإن استهداف بيئتها يعززها لا ينهيها، لكن الهزيمة تحدث فقط عندما تنفصل المقاومة عن شعبها”.

 

صمود رغم التضحيات الجسّام

 

يؤكد الدكتور عيسى بأن صمود بيئة المقاومة في لبنان وفلسطين وتلاحمها مع مشروع المقاومة رغم التضحيات الجسام والخسائر المادية (كالاستشهاد والاعتقال والتدمير الاقتصادي والتهجير وتدمير المنازل والممتلكات والمصانع والمزروعات) يعود إلى مجموعة من العوامل الذاتيّة والموضوعيّة التي تعزّز ثباتها وتجعلها قادرة على تجديد نفسها باستمرار. يكمن السر في التركيبة التكاملية بين الشرعية الأخلاقية والإيمان الداخلي الذي لا يهزم بالخسائر المادية، وبنية مرنة تستوعب الضربات وتُعيد إنتاج نفسها، وسياق إقليمي ودولي يُنتج عداءً مستمرًا فيُغذي شرعية المقاومة، وعلاقة وثيقة ومتينة بقيادة المقاومة التي تمثّل القدوة والمثال في التضحية وصناعة الانتصار وتأمين الحماية، ونتيجة الوفاء للتضحيات على اختلافها، وتحوّل قادتها ولا سيما السيد حسن نصرالله إلى رمز عالمي ومقصد لآلاف من الأفئدة التي آمنت به وبنهجه. كذلك ما يحصل اليوم من نكث للاتفاقيّات بما يتعلّق بالقرار 1701 في لبنان وتوقف تبادل الأسرى في فلسطين المحتلة بينما استمر العدوان ولم يعد الكلام عن خروقات بل عن استمرار الحرب والقتل والعدوان والاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين وسوريا. هذه العوامل تجعل من محاولات كسر إرادة المقاومة أشبه بـ “قطع رأس الهيدرا” التي تنمو أجزاؤها من جديد عند المقاومين ومجتمعهم المقاوم وبيئتهم الحاضنة وكل أهل الكرامة.

 

انصهار وجودي بين المقاومة وبيئتها

 

فيما يخص السؤال حول القدرة على الفصل بين المقاومة وبيئتها فيقول الدكتور عيسى بأن هذا سؤال جوهري في فهم ديناميّات مواجهة العدوان الغربي والإسرائيلي في لبنان وفلسطين والإجابة عليه تتطلب تحليلًا متعدد الأبعاد، لأن العلاقة بين الاثنين عضوية ومعقدة، فالبيئة هي “الرحم الاجتماعي” للمقاومة ومصيرهما مشترك، أي ضربة للمقاومة (مثل اغتيال القادة) تُعتبر ضربة للبيئة، والعكس صحيح (تدمير البنية التحتية يُضعف المقاومة)، كما توفر لها البيئة الحاضنة للمقاومة أو مجتمعها المقاوم الكوادر البشرية وتساهم في توفير الغطاء السياسي في مجلس النواب وسائر المؤسسات والإدارات الرسمية وغير الرسميّة، وتساهم في الدعم المالي والعيني،  كما توفّر غلافًا أمنيًا يحمي المقاومين من التعقّب والملاحقة ويمدها بالمعلومات، بل أصبحت المقاومة جزءًا من الهوية الجماعية، لا مجرد خيار سياسي وتحوّلت إلى رمز للتحرير والحماية والكرامة، وأضحت خيارًا وجوديًّا مقابل الحصار والتهجير والإبادة والمجازر الأميركية بيد وطبيعة عدوانية إسرائيلية. يبقى الفصل ممكنًا نظريًّا لكن بشروط غير واقعية في المدى المنظور لأن من متطلباته إيجاد بديل مقنع عن المقاومة وتغيير الهوية الاجتماعية لبيئة ومجتمع المقاومة، وافتراض انهيار الدعم الإقليمي الذي يضعف البنية بينما الدوافع ذاتية وليست مستعارة.

 

ويضيف:” ثمة أسباب أخرى منها تجارب تاريخية جزئية في لبنان وفلسطين وغيرهما، حيث لم تستطع السلطات المحليّة ولا الفتن والمؤامرات والاحتلال والعدوان من النيل من سلاح المقاومة وفعلها،  وهذا الأمر يحتاج إلى أجيال جديدة لا تربط كرامتها بالمقاومة، بينما كل الأحداث و لاسيما معركة أولي البأس أفرزت عدائية مضاعفة لهذا الكيان المجرم وإرادة ثأرية تختزن أهل الكرامة والأحرار المؤمنين بواجب المقاومة. لذلك، إن الفصل مستحيل عمليًا إلا بزوال أسباب المقاومة أي إزالة الاحتلال والإقصاء السياسي، وطالما استمرت الأسباب (احتلال، حصار، تهديد وجودي)، ستظل البيئة والمقاومة كتلةً واحدة”.

 

لا انفصال بين المقاومة وبيئتها

 

يشير الدكتور عيسى بأن المقاومة وبيئتها ستبقيان متماهيتين في الموقف عينه على استقامة وثبات في الصبر والنضال، تفدي إحداهما الأخرى طالما لم يُحقق المشروع الوطني أهدافه، وطالما الوطن وأمنه القومي مهدد بوجود هذا الكيان الصهيوني المجرم، ولم يظهر بديل يحمي الناس ويحقق كرامتهم، وطالما هناك من يؤازرهما ويوفر دعما ومساندة عبر جبهة الحق والمقاومة والكرامة، فلا حدود زمنية تقطع هذا الانصهار التام بين المقاومة وأهلها شركاء التضحية وإرادة العيش بكرامة وعز.

 

وعليه، أي محاولة للفصل بدون حل جذري للأسباب التي أوجدت المقاومة ستكون مثل قطع أغصان شجرة بينما جذورها حية، وسرعان ما تنمو من جديد، لأن هذه المقاومة تعبير عن حاجة أهلها للحماية ومواجهة العدوان وليست على الإطلاق ورقة سياسية بيد أحد حتى تنتهي صلاحيّتها. ولذلك نجد أن المقاومة في لبنان أثناء معركة “أولي البأس” رمّمت مواقعها وتعمل على ترميم كافة قدراتها واستخلاص الدروس والعبر وإعادة هيكلة أنساقها ورسم خارطة الاستمرار على العهد بثقة واقتدار لبلوغ الأهداف، وتستمر في مشاريع الإيواء وإعادة الإعمار والقيام بالاستحقاقات السياسيّة والاجتماعيّة المختلفة، ومنها الانتخابات البلدية أو المحلية كترجمة لحمل المسؤولية المشتركة مع أهلها أكرم الناس.

 

وكما برهنت بيئتها التي حضرت بزخم في تشييع الشهيدين أميني عام حزب الله السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفيّ الدين عن البيعة المطلقة لخيار المقاومة والاستمرار على العهد عينه بعد أن قدّمت نموذجًا في العودة إلى القرى والبلدات بالفداء والشهادة لحظة الإعلان عن  وقف الأعمال العدائية ومحطات العودة إلى الديار، كما أكدت تصميمها على جدارتها بالحياة وهي تستعيد نشاطها وحيويتها في ميادينها الاجتماعية وتمارس دورتها الطبيعية وكأن خسارة لم تقع غير عابئة بعدوان المحتل إلا برفض احتلاله والبقاء على عداوته وإرادة قتاله.

 

ويختم الدكتور عيسى بالقول بأن كلاً من المقاومة ومجتمعها يتسلحان بتجارب مشابهة كثيرة في العالم تحتّم عليهما الاستقامة في المقاومة وقتال العدو، ويستطيعان بجدارة تحويل أي تهديد يعاقبهما على خيارهما ويعمل على حرمانهما من الامتيازات ومحاصرتهما إلى فرصة مدهشة في مزيد من الالتحام والرهان على الوحدة والتكيّف بما يرفع من منسوب الجاهزية لطرد الاحتلال مع منح الدبلوماسية وقتها الكافي دون الرهان عليها والمضي إلى الأمام لأن التخلي عن المقاومة بالنسبة للمقاومين وأشرف الناس أي مجتمعها الحاضن يعني الموت والذل في ظل تغوّل وتوحش أمريكي إسرائيلي في حرب الإبادة والتهجير والاحتلال والعدوان، وفي حرب الجمارك والاقتصاد، وفي حرب الإملاءات المهينة.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص