حق الأجيال القادمة في الإنصاف والعدالة

ويمتد نطاق المسؤولية إلى الوقت الحاضر والماضي والمستقبل على حد سواء فينبغي احترام الواقع والإسهام في تطويره، واحترام الماضي وعدم إنكاره أو محاولة الإساءة إلى مضامينه، واحترام المستقبل بكفالة حقوق الأبناء والأحفاد والأرض وما عليها اليوم وغداً، وليس ما تقدم إلا ترجمة لالتزامات قانونية بالدرجة الأساس وأخلاقية تلزم...

التفكير الموضوعي والعقلاني يحتم على الإنسان ان يكون منصفاً ورشيداً في اختياراته وقراراته فليست الأرض ملكاً أو محلاً خالصاً للإنسان في الوقت الراهن أو الوقت الماضي، بل هي مأوى للكائنات الحية الأخرى وكذا الأجيال القادمة لها الحق في الحياة كما للجيل الحالي أو السابق، وليس من العدل أو الإنصاف ان نفسد الأرض ونقوض أسس الحياة عليها بل أن للآخرين أقصد الأجيال القادمة ذات الحق في الحياة على كوكب الأرض بأمن وسلام.

 

فمما لا شك فيه أننا اليوم نعيش بفضل منجزات وتضحيات الأجيال التي سبقتنا وعلى جميع الأصعدة فعلى المستوى المادي ننعم بالاكتشافات والتكنلوجيا التي طورها العلماء ممن ساروا واحداً تلو الأخر على خطى العلم والمعرفة ليوصلوا لنا ثمار العلوم التي من شأنها ان تجعل نمط الحياة أكثر رفاهية، وعلى المستوى المعنوي نعيش نفحات التضحيات التي قدمتها الأجيال السابقة من الصالحين والأولياء ممن عملوا وأجهدوا أنفسهم في سبيل سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا والحياة الأخروية.

 

ومن الواضح ان النصوص القانونية الدولية والوطنية التي تكفل الحقوق والحريات لا تتعلق فقط بإقرار الحق أو الحرية وكفالة التمتع بها للأفراد الموجودين فحسب بل أنها تسير في طريقين متوازيين الأول ما تقدم باتجاه تقرير الضمانات القانونية التي من شأنها صيانة جوهر الحق والحرية وتكفل التمتع بها من الكافة، والثاني تقرير المسؤولية فبما ان الإنسان كائن عاقل فهو لا يتلقى الحقوق فحسب بل تقع على كاهله مسؤولية كبرى إزاء المجتمع ونفسه، ويمتد نطاق المسؤولية إلى الوقت الحاضر والماضي والمستقبل على حد سواء فينبغي احترام الواقع والإسهام في تطويره، واحترام الماضي وعدم إنكاره أو محاولة الإساءة إلى مضامينه، واحترام المستقبل بكفالة حقوق الأبناء والأحفاد والأرض وما عليها اليوم وغداً، وليس ما تقدم إلا ترجمة لالتزامات قانونية بالدرجة الأساس وأخلاقية تلزم الجميع الهيئات النظامية والأفراد، فالتضامن سواء بين أبناء المجتمع الواحد اليوم أو بين الأجيال الحالية والمستقبلة أمر لابد منه للوصول إلى رغد العيش الذي يحمل بين طياته البعد الإنساني للعلاقة بين بني البشر.

 

يشار إلى ان بعض النصوص القانونية تشير صراحة إلى حقوق الأجيال المقبلة ومنها ميثاق الأمم المتحدة للعام 1945 والذي يصرح ان الهدف من منظمة الأمم المتحدة هو إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب، وان إنقاذ المستقبل والأجيال المقبلة هو الهدف الرئيس وراء جملة من الاتفاقيات الدولية ومنها اتفاقيــة الأمــم المتحــدة الإطاريــة بــشأن تغــير المنــاخ للعام 1992 واتفاقيــة التنــوع البيولوجي 1992 واتفاقية الأمم المتحـدة لمكافحـة التـصحر 1994.

 

فقد ورد على سبيل المثال في المادة الثالثة من الاتفاقية الإطارية بشأن المناخ ما نصه ((تحمـي الأطـراف النظام المناخي لمنفعة أجيال البشرية الحاضرة والمقبلة، على أساس الإنصاف، ووفقـاً لمسـؤوليتها المشتركة، وإن كانت متباينة، وقدرات كل منها، وبناء على ذلك، ينبغي أن تأخذ البلدان المتقدمة مكان الصدارة في مكافحة تغير المناخ والآثار الضارة المترتبة عليه))، كما وتشير ديباجة الدستور العراقي إلى معنى قريب مما تقدم حيث ورد فيها ((نحنُ شعبُ العراقِ الناهض توّاً من كبوته، والمتطلع بثقة إلى مستقبله من خلال نظامٍ جمهوري اتحادي ديمقراطي تعددي، عَقَدَنا العزم برجالنا ونسائنا، وشيوخنا وشبابنا، على احترام قواعد القانون وتحقيق العدل والمساواة، ونبذ سياسة العدوان، والاهتمام بالمرأةِ وحقوقها، والشيخ وهمومه، والطفل وشؤونه، وإشاعة ثقافة التنوع، ونزع فتيل الإرهاب)).

 

فلو أنعمنا النظر في نصوص الدستور العراقي للعام 2005 والمواثيق الدولية النافذة اليوم نلحظ أنها تؤكد مثلا على المساواة كمبدأ لابد منه فهل المساواة بين العراقيين الحاليين فقط أم بينهم وبين الأجيال المقبلة، الجواب ان المساواة مفهوم شامل ينصرف إلى القادم والحالي على حد سواء، فليس من العدل في شيء ان يبادر الإنسان اليوم إلى إهلاك البيئة التي يعيش فيها أو إرهاقها بكثرة التجاوزات التي تتسبب بتلوثها ففي فعله هذا ولا شك اعتداء على حقوق الجيل الحالي والقادم، كما ان الإشارة التي وردت بالدستور إلى الأسرة وأنها عماد المجتمع فليس المقصود بها قطعا الأسرة وقت سن الدستور وإقرار قواعده بل الأسرة الموجودة أو التي ستوجد في المستقبل، والحق بالزواج والإنجاب وغيرهما تتصل بالأجيال القادمة وكذلك الأمر بالنسبة للحق في الصحة والسلامة الجسدية إذ تتصل ولا شك بسلامة النشء والشباب، بعبارة أخرى أشد وضوحا ان الاستجابة لحقوق العراقيين والإنسان عموماً اليوم ينبغي ان لا يكون على حساب القادم من الأفراد بالمستقبل.

 

ليس هذا فحسب بل ينبغي ان لا يقود سلوكنا الحالي إلى حوق الخطر بالأجيال المقبلة وتقليل الفرص أمامهم للعيش في حياة حرة وكريمة، فالعدالة والمساواة مبدأ عابر للزمن وليس حكراً على وقت معين، وعلى سبيل المثال الانتفاع من الموارد الطبيعية والخيرات المكتنزة في باطن وظاهر الأرض ينبغي ان يوزع على نحو من الإنصاف والعدالة بين الأجيال، وبهذا السياق يأتي التزام المجتمع الدولي بضرورة احترام سيادة الدول وعدم الاعتداء بأي شكل من الأشكال على مواردها الطبيعية سواء الخالصة التي تتواجد في إقليمها أو المشتركة، كمياه الأنهار الدولية، أو بمنع الضرر العابر للحدود لا سيما ضرر الإرهاب، أو التدخل الهدام في الشؤون الداخلية، أو التلوث المنقول عبر الهواء أو الماء، أو بأي وسيلة أخرى من شأنها ان تضر بمصلحة الأجيال الحالية أو القادمة، حيث تتصل مصالح من ذكرنا بالاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في الدولة.

 

ولو أعطينا مثالاً من حياتنا اليومية لخطر يتهدد تلك المصالح فإن تدمير أي مورد من الموارد الطبيعية بشكل لا رجعة فيه يمثل عدواناً يمعن في انتهاك حقوق الغير ويتنكر لمبادئ تقرير المصير، على سبيل المثال خفض الانبعاث الكاربونية والحد من التلوث بشتى صوره واجب أخلاقي وقانوني على الدول، بيد ان السلوك غير المتزن لبعض الأنظمة أو الأشخاص يعرض هذه الغاية والهدف إلى خطر جسيم، حيث يسعى الرئيس الأمريكي الحالي وكلما عاد إلى سدة الحكم إلى التنصل من اتفاقية باريس 2011 الإطارية الخاصة بالمناخ لأسباب اقتصادية وسياسية لا ترقى إلى المخاطر التي تسبب بها الاحتباس الحراري، وان السعي إلى الحروب الاقتصادية والصناعية لا يقود إلا إلى مزيد من الدمار البيئي والتضحية بالتأكيد بحقوق أجيال المستقبل.

 

والى المعنى المتقدم تشير المادة الأولى من الإعـلان العـالمي لحقوق الإنسان ((أن جميـع النـاس ولـدوا أحـراراً ومتـساوين في الكرامـة والحقـوق، ووهبـوا العقل والوجـدان، وعلـيهم أن يعـاملوا بعـضهم بعـضا بـروح الإخـاء))، فمن منطلق الأخاء تبنى التزاماتنا القانونية والأخلاقية إزاء المقبلين على هذه الحياة، ولما كانت الأمم المتحدة قد شخصت وبحق منذ التسعينيات ان الفقر هو التحدي الأكبر الذي يواجه الإنسانية لذا وضعت أهداف التنمية المستدامة لغاية -العام 2030 وما بعدها.

 

نعم إن حماية حقوق الأجيال لا تعني التضحية بالجيل الحالي والسعي الجاد إلى إسعاده في ظل عالم يعاني من انعدام العدالة في توزيع الموارد والإمكانيات والجشع وما يقود إليه من سياسات اقتصادية وتجارية ظالمة تجد صداها في الدول والشعوب الأقل في الموارد والأشد ضعفاً علــى المدى المتوسط والطويل.

 

ومن مصاديق حقوق الأجيال القادمة أيضاً ان نحافظ على الإرث الإنساني الذي ننعم به اليوم بفضل الأجيال السابقة كونه ثروة إنسانية، أضف لما تقدم ان ذلك الإرث يعد إنسانياً خالصاً وتراثاً مشتركاً بين الشعوب والأمم ليس حكراً على دولة أو شعب أو فئة لا سيما ونحن نتحدث عن التراث غير المادي الديني والثقافي الذي يمنح الهوية الحضارية للمجتمعات في عصرنا الراهن، فمما لاشك فيه ان الكثير من تلك الهويات مهددة بشكل كبير جداً بالاندثار.

 

كما قد يشكل البعض على ان الأجيال القادمة لم يولدوا بعد وليس من المقرر ان تمنح الحقوق أو تفرض الالتزامات إلا على الفرد الحي القادر على تحمل الواجبات أو التمتع بالحقوق، إلا ان للإنصاف نقول ان هذا الرأي مغالى به فمن حق الأجيال المقبلة كما الحالية التمتع بسائر الحقوق ومنها المعنوية كالحق في اللغة الأم التي توارثتها الأجيال المتعاقبة أو الحق في الدين والعقيدة، والأمر ذاته بالنسبة للحقوق المادية كالحق بالصحة والضمان الصحي للتخلص من المعاناة.

 

ويمكن ان نسوق إلى ما تقدم مثالاً في غاية الوضوح إذ تشير التقارير إلى ان بعض التجمعات السكانية في جنوب العراق القريبة من مناطق الصناعة النفطية يعاني مواليدها من تشوهات وأمراض مستعصية لا حصر لها، ومن مقتضى العدل والإنصاف ان تعمد الدولة إلى تهيئة الظروف المؤاتية ليولد هؤلاء وهم في أتم الصحة والعافية وليس العكس، وان التقصير فيما تقدم يثير مسؤولية الدولة ولو لم ترتكب أي خطأ على أساس المخاطر وتحمل تبعات أعمالها الخطرة المتصلة بالصناعة النفطية.

 

أضف لما تقدم ان الدول المتقدمة تشير في أدبياتها إلى أن أفضل الاستثمارات ذلك الذي يتصل برأس المال البشري كونه القوى المحركة للاقتصاد وسائر القطاعات التي تتصل بالاقتصاد كالعلوم والتكنلوجيا مثلاً، فماذا تنتظر الحكومة لتؤسس لصندوق الأجيال في العراق؟ أو لتشيع ثقافة احترام حقوق الأجيال القادمة؟.

 

المصدر: شبكة النبأ