يُعتبر الدين من الضروريات الإنسانية التي تشكل جزءًا أساسيًا من حياة الإنسان منذ العصور القديمة. فهو يقدم للإنسان إجابات عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بوجوده، وهدفه، ومصيره. كما يعزز من روابط المجتمعات ويشكل منظومة من القيم التي توجه سلوك الأفراد وتساعدهم في التعامل مع قضايا الحياة. ومع مرور الوقت، شهد الدين تطورًا من خلال التفاسير المختلفة والتأويلات المتنوعة التي قام بها العلماء والمفكرون، ولكن مع الأسف، أصبح الدين في بعض الأحيان محاصرًا بالعديد من “الأغلال” التي لا تعكس جوهره، بل تحرفه عن مساره الذي بدأه في عصر النبوات.
من هنا تنبع أهمية فكرة أنسنة الدين وتحريره من تلك الأغلال التي أصابته، وخاصة بعد انتهاء عصر النبوة في العام 11 هجرية، وهو التاريخ الذي شهد وفاة آخر الأنبياء، النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم. منذ تلك الفترة، بدأت تظهر تفسيرات بشرية متعددة للنصوص الدينية، وهو ما ساهم في انقسام الأمة الإسلامية وتعدد المدارس الفكرية التي غالبًا ما كانت تُستخدم لأغراض سياسية أو اجتماعية، لا سيما في فترات الحروب والصراعات.
إن “أنسنة الدين” تعني العودة إلى روح الدين وجوهره بعيدًا عن التفسيرات التي أُضيفت إليه بفعل الزمان والمكان. الدين في جوهره ليس مجرد مجموعة من الأحكام الجامدة، بل هو منظومة من القيم الإنسانية التي تدعو إلى العدالة، والمساواة، والرحمة، والتعايش، والسلام. ومع مرور الزمن، نجد أن بعض المؤسسات الدينية، أو حتى الممارسات الثقافية المرتبطة بالدين، قد تحولت إلى عوائق أمام تحقيق هذه القيم.
إنَّ الدين ينبغي أن يكون مرنًا ومتكاملًا مع تطورات المجتمع والإنسان. فالعديد من العادات والتقاليد التي تتسرب إلى الحياة الدينية قد تساهم في جعل الدين يبدو وكأنه “عائق” بدلًا من أن يكون “محررًا” للإنسان من قيود الزمان والمكان. أنسنة الدين تعني الفصل بين القيم الثابتة التي يحملها الدين وبين القيود التي أضافتها تفسيرات البشر في مختلف العصور.
منذ وفاة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم، برزت العديد من التفسيرات والاجتهادات التي شكلت ما يمكن تسميته بـ “الأغلال” التي قد تحد من تطور الدين مع تطور الزمن. في كثير من الأحيان، تُستخدم بعض التفاسير كأداة للسيطرة على المجتمع، أو تقييد حقوق الأفراد.
عندما نتحدث عن “تحرير الدين”، فإننا نعني تحريره من التفسيرات الضيقة التي تبتعد عن مقاصده الأصلية. الدين يجب أن يكون أداة تمكّن الإنسان من تحقيق أهدافه السامية في الحياة، وليس عائقًا يمنعه من التفاعل مع التحديات المعاصرة. فالدين لا يمكن أن يُختصر في إطار موروث، بل ينبغي أن يكون حيًا، ينبض بالحياة، ويواكب التغيرات في العالم.
يُعتبر الدين أحد أكبر مصادر الإلهام للإنسان في سعيه لتحقيق العدالة والمساواة. لكن في العديد من الأحيان، يتم استغلال الدين كأداة للحفاظ على الوضع القائم في المجتمع، وخاصة عندما لا تتوافق بعض التفسيرات مع تطور الفكر الاجتماعي والسياسي. إن التحدي يكمن في إعادة النظر في هذه التفسيرات بحيث يصبح الدين أداة لتطوير الحياة البشرية بدلاً من أن يكون سببًا في تقييدها.
من خلال العودة إلى القيم الإنسانية التي دعا إليها الدين في جوهره، يمكننا أن نعيد الدين إلى مكانته الحقيقية كداعم للتقدم الاجتماعي والسياسي. هذا يتطلب تفكيرًا نقديًا، وانفتاحًا على التفسير المعاصر للنصوص الدينية بما يتماشى مع المتغيرات المجتمعية والعالمية.
أنسنة الدين وتحريره من الأغلال ليس مجرد مقترح نظري، بل هو ضرورة ملحة لضمان أن يبقى الدين أداة لتطوير الإنسان والمجتمع. ومن خلال العودة إلى جوهر الدين، يمكننا أن نعيده إلى مكانته كداعم أساسي للعدالة، والمساواة، والتعايش، في عالم يعاني من الانقسامات والتحديات المستمرة. الدين يجب أن يكون حيًا في قلب الإنسان، مفتوحًا على آفاق التطور، ومتواكبًا مع تطورات العصر.