د. أكرم شمص
المقدمة
في زمنٍ تتقد فيه الساحات وتتعالى فيه لغة السلاح، خرج الكاوبوي الأمريكي، مزهوًا بقوته، متسلحًا بترسانته، يظن أن من يملك النار يملك القرار. سعى أن يفرض شروطه على الجميع، يروّض الأمم بالإغراء حينًا، وبالتهديد أحيانًا، حتى لم يبقَ له من أعدائه إلا من لم تنحنِ له جبهته.
وهناك، في الزاوية التي حسبها خافتة، جلس “حائك السجاد”، نسّاج حضارة، وصانع معادلات لا تُفكك بالبوارج ولا تُفهم بالعنجهية. كان ينسج من صبره قوة، ومن تراثه مقاومة، ومن شعبه سِترًا لا يُخترق. لم يُرعد ولم يهدد، بل صمت واشتغل، وكل خيطٍ في سجادته كان رسالة، وكل لونٍ موقف، وكل عُقدةٍ وعد.
وحين احتدمت لحظة المواجهة، لم يلوّح الحائك بسيف، بل أخرج الرسائل، تلك التي وصلته من الكاوبوي ذاته: وديّة، متوسلة، تبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه، موقعة باسم “ترامب”، محمّلة بعبارات التفاهم والتفاوض، وكأن من كان بالأمس يُهدد، بات اليوم يرجو.
في تلك اللحظة، عرف الناس الجواب: من يقف مع الحائك؟ الله أولًا، وشعبه، وأحبّاؤه في الشرق والغرب، أولئك الذين يرون في السجادة علمًا وفي الخيط صبرًا وفي التصميم معركة. ليسوا مستثمرين في الحروب، بل مستثمرين في الكرامة.
أما الكاوبوي، فقد أدرك أن القوة لا تكمن في عدد الطائرات، بل في صلابة الموقف، وأن “الضعيف” لا يُرجى، ولا تُرسل إليه رسائل الرجاء. فكيف إذا كان الحائك، هو من نسج ببطءٍ طريق النصر، وصاغ بالكرامة معادلة الردع؟
حين دخل “رجل الكاوبوي” الأميركي إلى غرفة المفاوضات، لم يجد أمامه خصمًا ضعيفًا كما تخيل، بل واجه حائك سجادٍ فارسيٍ صبورٍ، يحفظ كل خيوط اللعبة بإتقانٍ موروثٍ من حضاراتٍ عريقة، ويعرف متى يشدّ الخيط ومتى يرخي العقدة.
جولة المفاوضات الأولى بين إيران والولايات المتحدة في مسقط لم تكن مجرد نقاش نووي تقني، بل كانت بروفة علنية لانقلاب في لهجة واشنطن، التي انتقلت، من تهديدات صريحة بالضربة العسكرية إلى اعتراف ضمني بضرورة التفاوض، ومن اشتراط تفكيك البرنامج الصاروخي إلى القبول بحصر النقاش بالملف النووي فقط.
التراجع الأمريكي.. الرسالة التي لم يقرأها الكاوبوي
كان دونالد ترامب، خلال ولايته الأولى، رأس الحربة في انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، وبطل رواية “الضغوط القصوى”. اليوم، وفي ولايته الثانية، يعود إلى الطاولة ذاتها، ولكن هذه المرة بهيئة أقل عنفًا، وأكثر واقعية.
التحول في النبرة الأميركية — التي وصفها الإعلام الرسمي الإيراني بأنها “إيجابية وبنّاءة” — لم يأتِ من فراغ. فالمأزق في أوكرانيا، وتراجع الهيمنة على محور المقاومة، وتصدعات التحالفات الغربية، جعلت من الحوار مع طهران خيارًا اضطراريًا لا ترفًا استراتيجيًا. أما التهديد بالضربة العسكرية الذي تكرر أكثر من مرة في الأشهر الماضية، فلم يُرهب الإيرانيين بقدر ما عرّى هشاشة الخطاب الأميركي أمام الردع المتعدد الجبهات من اليمن إلى لبنان.
تخبط العدو الصهيوني.. الضربة التي لم تأتِ
في المقلب الآخر، يقف العدو الصهيوني اليوم مذهولاً أمام مشهد التفاوض.فكل الرهانات التي بُنيت على إمكانية فرض “النموذج الليبي” على إيران قد تبخرت في هواء مسقط. ورئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، الذي لطالما دفع واشنطن نحو مواجهة مباشرة مع طهران، فوجئ بحصول لقاء، وإن كان عابرًا، بين عراقجي وويتكوف. أما الصحافة العبرية، كانت عناوينها الإحباط والتحذير من “انتصار السجاد على البارود”.
صحيفة “إسرائيل هيوم“ اعتبرت أن نتنياهو هو الخاسر الأكبر، بينما حذّر خبراء صهاينة من أن إيران استطاعت فرض قواعد اشتباك تفاوضية، رفضت فيها ربط الملف النووي بقدراتها الصاروخية، أو بعلاقاتها مع حلفائها الإقليميين، وأجبرت واشنطن على قبول هذه القواعد.
السجاد الإيراني.. عقدة فوق عقدة
في تقاليد حياكة السجاد الإيراني، لا تُترك أي عقدة للصدفة. كل خيط موضوع بدقة، وكل لون له دلالة، وكل مساحة تحمل سردية ما. وهذا تمامًا ما فعلته طهران في مسقط. فالإصرار على أن تكون المفاوضات غير مباشرة، والإصرار على أن تُعقد في عُمان، والإصرار على حصر النقاش بالنووي والعقوبات فقط — كلها كانت رسائل واضحة: طهران لا تفاوض من موقع ضعف، ولا تقبل بلغة الابتزاز.
ثمّة سرديتان تصطدمان هنا: الأولى أميركية تقوم على “الكاوبوي” الذي يحسم الأمور بالقوة، والثانية إيرانية تجيد كسب الوقت، وإدارة الرموز، والبناء البطيء على الأسس الصلبة.
ما بعد مسقط.. وخطاب السيد القائد الخامنئي هل تعود العجلة إلى الدوران؟
أجواء اللقاء الأول، التي وُصفت بالبناءة”، ليست ضمانة لنجاح كامل، لكنها كشفت هشاشة الخطاب التهديدي لواشنطن، وعرّت عجز تل أبيب عن التأثير على مسار التفاوض.
الجولة الثانية، المقررة في 19 نيسان/أبريل، ستكون اختبارًا أكبر، خاصةً في ظل صعود التصريحات الإيرانية عن “الجهوزية القصوى”، وتأكيد الإمام السيد علي الخامنئي على أن التقدم الإيراني يثير غيظ الأعداء، وأن الجهوزية ليست فقط تسليحية بل أيديولوجية وعقائدية أيضًا.
في خطابه بتاريخ 13 نيسان/أبريل 2025، وجّه آية الله العظمى السيد علي الخامنئي رسائل استراتيجية في توقيت بالغ الحساسية، حيث تتزامن مفاوضات مسقط مع محاولات أمريكية لتحجيم القدرات الدفاعية الإيرانية وربط رفع العقوبات بملفات تتجاوز النووي. أكد الإمام أن القوات المسلحة ليست فقط أداة دفاع، بل “حصن البلاد وملاذ الشعب”، مشددًا على أهمية “الجهوزية الشاملة” بشقيها العسكري والروحي. وقد أعاد التذكير بأن مصدر القوة الحقيقي هو في الإيمان بالنهج الإسلامي الثوري، وليس في التنازلات الدبلوماسية، وأن الحفاظ على الهوية هو خط الدفاع الأول أمام الضغوط الخارجية والمعركة النفسية والإعلامية.
رغم عدم التطرق المباشر للمفاوضات، فإن الخطاب حمل رسائل غير قابلة للتأويل لواشنطن: إيران لن تفاوض تحت الضغط، ولن تقايض كرامتها الوطنية بوعود غربية. كما أظهر التماهي الكامل بين القيادة السياسية والعسكرية عبر تأكيد رئيس الأركان على دعم القوات المسلحة لنهج الدولة وشعار العام، في مشهد يعزز من وحدة القرار السيادي ويضع أسسًا قوية لأي تفاوض قادم، على قاعدة الكرامة والاستقلال لا الاستجداء.
الختام
المحادثات بين إيران والولايات المتحدة في عُمان تمثل محاولة جديدة لاحتواء الانفجار الإقليمي، لكنها تظل محاطة بالشكوك والقيود السياسية من الجانبين. وتكمن أهميتها في كونها مؤشرًا على إمكانية العودة إلى مسار التفاوض، ولو على مراحل، في ظل ميزان قوى متغير وتزايد الضغوط الدولية لكبح التصعيد.
قد لا تُفرز مفاوضات مسقط اتفاقًا سريعًا، ولكنها بالتأكيد أنتجت معادلة جديدة: الكاوبوي
الأميركي بات مضطرًا لأن يحترم حائك السجاد الإيراني، لا أن يُملي عليه الشروط.
وفي الشرق، حيث يُنسج التاريخ بعقدٍ متأنية لا بخطاباتٍ نارية، تعلم طهران أن التمهّل لا يعني الضعف، وأن من يتقن حياكة السجاد يعرف كيف يصنع خارطة النفوذ خيطًا بخيط.