تعتبر العلاقات بين جورجيا وروسيا من القضايا الدبلوماسية المعقدة في منطقة القوقاز. فعلى مدى السنوات الماضية، شهدت هذه العلاقات تحولات كبيرة نتيجة عوامل جيوسياسية متعددة. وبينما تسعى جورجيا إلى موازنة طموحاتها الأوروبية مع الحفاظ على علاقات مستقرة مع جارتها الشمالية، فإن الموقف الدبلوماسي الجورجي يعكس تحديات الساحة السياسية المعاصرة في المنطقة.
أعلن “إيراكلي كوباخيدزه” رئيس وزراء جورجيا، في تقييمه للعلاقات بين تبليسي وموسكو، أن جورجيا تتبنى موقفاً سلمياً تجاه روسيا، وأشار إلى أنه على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية بين تبليسي وموسكو، إلا أن العلاقات التجارية بين البلدين لا تزال قائمة.
وصرح رئيس وزراء جورجيا بأن بلاده لعبت دوماً دوراً إيجابياً في إرساء السلام في القوقاز، مؤكداً أن جميع الدول المجاورة تُقدر مبادرات تبليسي، وقال كوباخيدزه إن جورجيا تتبنى اليوم موقفاً سلمياً وبراغماتياً للغاية فيما يتعلق بالعلاقات مع موسكو. وأضاف، مذكراً بعدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين، أن الشراكة التجارية بينهما مستمرة.
علاوة على ذلك، اعتبر هذا السياسي الجورجي أن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مع الحفاظ على علاقات سلمية وحسن الجوار مع دول الجوار، بما في ذلك روسيا، يمثل الأولوية الرئيسية لجورجيا.
موازنة المصالح
قدم “أرتشيل سيخاروليدزه” مؤسس معهد “سيخا” للأبحاث، تحليلاً لتوازن مصالح جورجيا بين الاندماج في الهياكل الأوروبية-الأطلسية والحفاظ على علاقات اقتصادية نشطة مع روسيا.
وذكّر في البداية قائلاً: “منذ وصول حزب ‘الحلم الجورجي’ إلى السلطة عام 2012، تخلى عن سياسة الأوربة الراديكالية التي كانت تتطلب مواجهة مع روسيا مقابل الوصول والاندماج السريع في الناتو والاتحاد الأوروبي. وفي عام 2017، بناءً على توصية من السياسيين الأمريكيين، تم تأجيل مسألة الانضمام إلى الناتو، ومنذ ذلك الحين، أصبح الاندماج في الاتحاد الأوروبي الأولوية الرئيسية لجورجيا.”
ولفت سيخاروليدزه الانتباه إلى النقطة التالية: “في عام 2022، مع بداية الأزمة الأوكرانية، وضع الغرب حكومة جورجيا أمام خيار: إما أن تكون معنا أو ضدنا. وكان معنى ‘أن تكون معنا’ هو مشاركة جورجيا في خطة الغرب لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا. وقد صُدم الجانب الجورجي آنذاك بشدة، لأنه قبل ذلك، كان الغرب راضياً عن سياسة جورجيا البراغماتية لسنوات عديدة. وقال الأوروبيون والأمريكيون لتبليسي إن عصر البراغماتية قد انتهى وبدأ عصر القيم، لذلك يتعين على جورجيا إظهار ولائها للغرب حتى على حساب مصالحها الوطنية.”
وأوضح هذا الخبير في شؤون القوقاز: “إن حزب ‘الحلم الجورجي’ الحاكم، اعتماداً على مصالحه أو ربما على مشاعره الوطنية، رفض تنفيذ شروط الغرب، ومنذ ذلك الحين، اعتُبر مؤيداً لروسيا لهذا السبب بالذات، لأن الخيار كان: إما معنا أو ضدنا. وأصبح حزب ‘الحلم الجورجي’ عقبة أمام مصالح الولايات المتحدة وأوروبا في جورجيا، لأنه لم يكن على استعداد للدخول في مواجهة مع روسيا. ولهذا السبب، أكد إيراكلي كوباخيدزه وأعضاء آخرون من الحزب الحاكم باستمرار على مدى السنوات الثلاث الماضية أن سبب توتر العلاقات بين جورجيا وبروكسل وإدارة بايدن هو سياسة جورجيا تجاه روسيا.”
وأضاف: “في المنتدى الدبلوماسي الرابع في أنطاليا، قام إيراكلي كوباخيدزه في الواقع بتلخيص نتائج سياسة جورجيا المستقلة. فلو وافق ‘الحلم الجورجي’ على اتخاذ إجراءات راديكالية وتصعيد التوتر مع روسيا، لما قال أحد في الغرب الآن إن جورجيا ليست ديمقراطية، ولما طالب أحد بإجراء انتخابات برلمانية مبكرة ولما وصف ‘الحلم الجورجي’ بأنه مؤيد لروسيا. وهذا يعني أن مسألة روسيا لا تزال مطروحة بقوة في تفاعلات جورجيا مع الغرب. وطالما لم تنته المواجهة بين أوروبا وروسيا، سيظل ‘الحلم الجورجي’ تحت ضغط الغرب.”
آفاق الإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي
كما أشار سيخاروليدزه إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يميل حالياً إلى التوسع بشكل عام.
وقال: “إن مثل هذا الاندماج ،انضمام أعضاء جدد غير ممكن حالياً، والوعود المقدمة ليست أكثر من ‘قصص غابة فيينا’ في إشارة إلى الوعود غير الواقعية. وقد أعلن ممثلو الاتحاد الأوروبي أنفسهم صراحةً أنه حتى عام 2030، لا يمكن أن يكون هناك أي حديث عن دمج أي دولة جديدة. ومن الصعب للغاية التنبؤ بالوضع السياسي في العالم حتى السنوات الخمس المقبلة. إضافة إلى ذلك، ليس لجورجيا حدود برية مع الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن الطريق الواقعي الوحيد لعضوية هذا البلد في الاتحاد الأوروبي هو انتظار انضمام تركيا إلى هذا الاتحاد. إن تجاوز العقبات الجيوسياسية والدخول إلى الاتحاد الأوروبي دون وجود اتصال جغرافي مع أوروبا ليس سوى قصص وأساطير.”
وأوضح: “لم يتوسع الاتحاد الأوروبي أبداً عبر البحر؛ فالتوسع كان دائماً عبر الحدود البرية. لا بد من وجود حدود واضحة. ومن هذا المنظور، فإن أوكرانيا ومولدوفا وتركيا تحتل مكانة أعلى بكثير في صف الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولكن حتى فرصة تركيا لإثمار جهودها التي استمرت 30 عاماً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لا تبدو كبيرة أيضاً.”
واختتم سيخاروليدزه: “لذلك، من الأفضل لجورجيا أن تركز على رفع مستويات المعيشة والإنتاج المحلي، بدلاً من التركيز فقط على اكتساب وضع العضوية في الاتحاد الأوروبي، إلى درجة تكون فيها كل منتجاتنا وأعمالنا جذابة للسوق الأوروبية ويمكن لمواطنيها السفر بحرية إلى أوروبا. نحتاج أن نصبح مثل النرويج أو اليابان؛ فهما ليستا عضوين في الاتحاد الأوروبي، لكنهما لا تواجهان أي مشكلة في التعامل مع أوروبا بوصفهما دولتين تتمتعان بأعلى مستوى من التنمية.”
تُظهر تصريحات المسؤولين والمحللين الجورجيين تحديات المعادلة الصعبة التي تواجهها تبليسي في سياستها الخارجية. فمن ناحية، تسعى إلى الحفاظ على استقلالية قرارها السياسي والاقتصادي، ومن ناحية أخرى، لا تزال تطمح للاندماج في المنظومة الأوروبية. وفي ظل الواقع الجيوسياسي الحالي، يبدو أن جورجيا تتجه نحو تبني نهج براغماتي يراعي مصالحها الوطنية أولاً، مع الاستمرار في تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع مختلف الأطراف الدولية والإقليمية، والتركيز على التنمية الداخلية بدلاً من الانخراط في صراعات إقليمية لا تخدم مصالحها المباشرة.