الوفاق/ الأدب كان وسيظل النافذة التي نطل من خلالها على ما حل بالأرض ومن يسكنها من بشر وكائنات أخرى من كوارث، سواء من خلال دمج الواقع بالخيال أو عبر التوثيق الحرفي ولكن بقالبٍ أدبي بحت.
كما تقول “بروين حبيب” الشاعرة البحرينية في مقالتها: “سلك الأدب مسلك الاحتجاج وعدم السكوت أمام الأحداث التي تهز حياة الإنسان، وتسعى ليس فقط لنقل أوجاعه، بل لإقتراح حلول. منذ أدب جول فيرن إلى جان بول سارتر، كان الأدب واجهة لمخاطبة الوعي وإيقاظ الضمائر والعقول لمواجهة الأخطار التي تتربص بالإنسان، بدءا بغرائزه الشرهة وأطماعه الغريبة إلى كوارث الطبيعة، التي في الغالب حين تحدث تكسر جبروته وتقلص من غروره وتعيده لحجمه المتناهي في الصغر أمام عظمة الخالق.
لا يمكن إنكار بُعْد الكارثة المرتبط بالأدب، فالشرور بأنواعها يكون لها التأثير الأكبر في الذاكرة الإنسانية، ولهذا تؤخذ بعين الاعتبار لبناء قصّة جيدة، على اختلاف شكل البناء، شعرا كان أم رواية أم قصة قصيرة أم مسرحية.
مدى تأثير الأوبئة في الأدب، كعنصر مُلهم لكتابة روائع مثل “الحب في زمن الكوليرا” لماركيز، أو “الطاعون” لكامو. لكن حفر الأدب للكارثة في الوجدان الإنساني يتجاوز مجرّد شهادة أو استحضار للحدث، فغالبا ما يتحوّل هذا العمل عنصرا أساسيا في دراسات كثيرة تاريخية واجتماعية وثقافية لاستخلاص التغيرات والتحولات التي تشهدها المجتمعات بعد كل كارثة طبيعية بحكم الأحجام الضخمة التي تبسط بها قوّتها فتمحي مرحلة لتولد مرحلة جديدة في حياة المجموعات الإنسانية”.
تصوير معاناة البشر
بدوره يقول الكاتب والسناريست السوري ممدوح حمادة: إن الكوارث الطبيعية تشكل مادة غنية يستقي منها الأدب موضوعاته.
ويشدد على أن الكثير من الأعمال الأدبية تستقي من هذه الكوارث موضوعات إنسانية مثل العلاقات التي تفرزها هذه الكوارث بين البشر ومعاناتهم ومأساتهم وتصور الكثير من الحالات فيها قوة الإرادة البشرية أو هول الكارثة وهذه كلها تشكل دوافع قوية جداً في صناعة الأدب، إضافة إلى ذلك الدور التوثيقي الذي تلعبه بعض هذه الأعمال حيث يكون الكثير منها حصيلة تجارب شخصية حصلت على أرض الواقع.
ويشير إلى رواية آلبير كامو “الطاعون”، معتبراً إياها كأشهر عمل أدبي تأخذ هذا المنحى.
الكوارث الطبيعية في مرآة الأدب
لم يكن الأدب يوماً بمنأى عن تدوين الكوارث الطبيعية التي تحدث بين فينة وأخرى، وتتسبب بالصدمة الأكبر بالنسبة للمجتمعات البشرية، حيثُ يعتبر المبدع مرآة يعكس ما يصيب الدائرة التي تحيط بها.
لهوميروس، في أوديسته، مقولة مفتاحية حول علاقة الشعر بالآلام: “تحوك الآلهةُ فجائعَ للبشر كي يكونَ للأجيال القادمة ما تُنْشِدُهُ”. مقولة تَتَفق مع تعبير نَاظِمْ حِكْمَتْ: “وَهَلْ مِنْ شَجَنٍ لَمْ نُنْشِدْهُ بَعْدُ؟”. وبذلك، تتواشج، خارجَ إطارَيْ الزمان والمكان، العلاقة بين المأساوي والشعري والغنائي. وفجيعة الزلازل التي هزت سوريا وتركيا وجوارهما مناسبة للبحث في مدوَّنات الشعر العربي والشرقي الحديث والمعاصر عن هذه اللَّحظات الإنشاديَّة التي تجاوز فيها الشعراء توثيق لحظات الآلام إلى التعبير عن آمال التعاضد بين البشر، في ما يتجاوز الحدود التي ترسمها بقسوة الجنسيات والأعراق والأديان والجغرافيات المنغلِقة المقيتة؛ على العكس تماماً مما يجري حالياً من نفاق غربي وتباكٍ تمساحي وحصار جائر على رَحِمِنا الكبرى: سوريا. يكفي أيَّ متتبع عادي أن يلحظَه لو تتبَّع على النت في أي لحظة، خلال هذه الأيام، مقارنةً لحركة الطيران المدني الإسعافي بين تركيا وسوريا.
وحول الكتابة عن الكوارث يقول الكاتب السوري محمود عبدو: “إن حدوث أي مأساة تفتح باب الأسئلة عمن يوثقها ويكتبها ويعيد إنتاجها أدبياً، وما حملته البشرية من تراث شفهي ومكتوب عبر عصوره ما هو إلا تناقل لأهوال وكوارث مرت بها، بدءاً من قصة الطوفان وما تلاها من قصص أخرى، تناقلناها إبان أي كارثة.
أدب المأساة والكوارث ضرورة حتمية لأنها تتماهى والعرف الأخلاقي والقيمي للبشرية جمعاء، وكونها تتناول موضوعاً حساساً وغير طبيعي يلعب بحياة البشر ويتسبب بمقتله”.
فنذكر هنا كأنموذج بعض المختارات الشعرية والأدبية التي تناولت الزلزال الأخير في سوريا وتركيا والذي يدل على حرقة القلب والتأثر بهذه الكارثة الطبيعية، حيث ينشدون: رحيمة بنا كوني أمنا الأرض.
يا سوريا الوحيدة
جاء في أبيات الشعرية للشاعر “المهند حيدر”:
يا سوريا الوحيدة
يا سوريا الحزينة كطفلة ضاعت في المقابر
دموعك لا مجيب لها
وصوتك مخنوق في حناجرنا
نحن المرهونون للموت أبداً
وحيدون دوماً
معك
وأنت دوماً وحيدة
نوبات الشهيق والزفير
فيقول الشاعر والمسرحي “سامر محمد إسماعيل” في نص أدبي بهذا المجال: من أين لي أن أعرف أنكِ كنتِ هناك. على مقربة جسد، ففي العتمة كنتُ لا أسمع سوى حشرجات وأنفاس مذعورة لأشخاص تم قذفهم في غرفة.
كانت أصوات خمش الأظافر للوجوه تتعالى من حولي، وكنت لا أستطيع التفريق بين صوت وآخر. كانت نوبات الشهيق والزفير تعلو وتضطرم كلما اصطدمت الأجسام ببعضها، فتعلو صرخات مرعبة، وتتصاعد في هيجانات مدوية، ثم تسكت دفعةً واحدة. كان الوقت كله ليل، والروائح تتكدس في الممرات الباردة ملطخةً بفحيح بشري مروّع. وحدها يدكِ العمياء كانت تعرف مقاسات هذه القمصان وترميها علينا، فنستحيل جميعاً إلى طيور.
يا للأسى
كما يصدح الشاعر “هاني نديم” بأبياته الشعرية، ويقول:
حزانى يهرعون لحزانى
منكوبون ينقذون منكوبين
مفقودون يبحثون عن مفقودين
بيوتٌ شاخصةٌ من الخوف تنظر برعبٍ إلى بيوتٍ قضت
نشيدٌ طويلٌ للموت في براحٍ أصمّ..
يا للحزن.. يا للأسى
هلوسات ما بعد الصدمة
ومن جهتها تقول الكاتبة: “سناء علي”: “إن مفردة “زلزال” وحدها قادرة على هزّ الكيان وإثارة الرعب في النفوس، فكيف وإذا به زلزالٌ حقيقيٌّ من درجة مدمرة ينبش البشر من أسرّتهم نياماً في أحضان البرد ليرميهم تحت أكوام من الحجارة والدم والموت؟ ها قد شبنا أيتها الحياة الغزيرة بالمسرّات ولم ننل منك قسطاً واحداً يغذّي مخزون الذاكرة للأيام الحالكة التي لم نعرف سواها. اختبرنا كل أشكال القسوة والألم ولابدّ أن في جعبتك المزيد لتفاجئينا به، فنحن وبعد كل ما مررنا به، ظننّا أن احتياطك من القسوة قد شحّ أو نضب، أو أننا استهلكنا رصيدنا من التعب كاملاً..
هذه ليست مزحة ثقيلة الظلّ، إنها فقط هلوسات ما بعد الصدمة وأثر تلك الصور الكثيفة التي لم يتكلف العالم عناء النظر إليها حتى لإبداء تعاطف كاذب.
عشرات الأسئلة والحسرات تطوف الرأس بلا إجابات، ودموع ملء الجفون مالحة تحرق الأهداب والقلب، فكيف يا الله نجتاز كل هذا وكيف سينسى أولئك العالقون بين براثن الموت وشهوة الحياة إن نجوا؟ من سيحميهم من صرخات المفقودين بين طيات الرعب والوحشة؟ قد تلهينا الأيام بعد حين ونعود للركض سعياً إلى البقاء وتجسيداً لسنة الحياة وشرطها، لكنّ نفوسنا قد تحوّلت إلى صناديق من الأمل منتهية الصلاحية”.