د.اكرم شمص
سياسات ترامب وإدارته أشبه ببيانات سلطوية
السياسات التي ينتهجها ترامب وإدارته هي أشبه ببيانات سلطوية تعيد تعريف الحريات والاقتصاد كأداة للهيمنة، وتفتح هذه السياسات تساؤلات جوهرية حول مستقبل الحريات وحقوق الإنسان .
أما بخصوص التضييق على الجامعات والتحركات الطلابية فإن الهدف من كل ذلك ليس محاربة “التطرف” كما يُزعم، بل هو إخراس الرواية الفلسطينية، ومنع الجيل الجديد من تكوين وعي حرّ ومناهض لسياسة الاحتلال. فالإدارة الأميركية، وبتحالفها الوثيق مع اللوبي المؤيد للغدة السرطانية، تحاول السيطرة على الخطاب داخل الجامعات، لأن هذه المؤسسات تؤثر في الإعلام، وفي السياسة، وفي مستقبل النخب الأميركية، والمفارقة أن هذا يحدث في بلد يُفترض أنه يحمي حرية التعبير بموجب التعديل الأول من الدستور.
إن ما تواجهه الجامعات اليوم ليس مجرد خلاف سياسي، بل معركة حول من يملك الحق في رواية الحقيقة: هل هم أصحاب القنابل، أم أصحاب الكلمة؟
ومحاربة الجامعات المؤيدة لفلسطين هي محاولة لإعادة تشكيل الوعي الأميركي، بما يخدم رواية واحدة فقط وهي الرواية الصهيونية الرسمية، مهما كانت ممارساتها على الأرض.
هارفارد في مرمى نيران ترامب
مع بداية العام 2025، وجدت جامعة هارفارد، أحد أعرق الصروح الأكاديمية في العالم، نفسها في مواجهة مباشرة مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فبعد رفضها المطالب الحكومية المتعلقة بكبح الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين، وتحديدًا التضامن مع غزة في وجه العدوان الصهيوني، جُمدت تمويلات فدرالية بقيمة 2.2 مليار دولار، وتوالت عليها التهديدات بإلغاء الإعفاءات الضريبية.
إدارة هارفارد، وعلى رأسها “آلان غاربر”، أكدت أن الجامعة لن تساوم على استقلالها ولا على حقوقها الدستورية، متمسكة بحرية التعبير كقيمة أساسية. لكن قرار ترامب لم يكن مجرد عقوبة مالية، بل شكل سابقة تهدد كل الجامعات التي تسمح بحراك طلابي مؤيد للقضية الفلسطينية.
الجامعات الأميركية بين الاستقلال والتهديد
قرار ترامب لم يقتصر أثره على هارفارد، بل ألقى بظلاله على باقي المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة، لا سيما تلك التي شهدت حراكات طلابية مماثلة مثل كولومبيا، MIT، وييل. جامعات بدأت بإعادة النظر في سياساتها الداخلية وتضييق الخناق على النشاط الطلابي خشية العقوبات.
بعض الجامعات، مثل كولومبيا، تعرضت لضغوط مالية مباشرة، إذ جُمدت تمويلات تتجاوز 400 مليون دولار. وقد تم اعتقال طلاب وناشطين، ما أرسل رسالة مفادها أن أي حراك طلابي تضامني مع فلسطين قد تكون كلفته عالية.
قمع الحريات داخل الحرم الجامعي
ما يثير القلق أكثر هو سعي الحكومة إلى فرض رقابة صارمة على المؤسسات التعليمية، ليس فقط عبر التمويل بل عبر قوانين وتشريعات. من ذلك قانون “المؤسسات غير الربحية” الذي يُجيز إلغاء الإعفاء الضريبي لأي مؤسسة يُشتبه بدعمها بما يُسمى بالإرهاب، وهو تصنيف بات يشمل من يدعو لمقاطعة العدو الصهيوني. كما تبنت إدارة ترامب مشروع “إستر” الذي يخلط بين انتقاد الكيان الصهيوني ومعاداة السامية، مما يجعل أي انتقاد لهذا الكيان سببًا كافيًا للتهديد بالترحيل أو الملاحقة.
الإسلاموفوبيا كسلاح سياسي
بعد أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، صعدت موجة الإسلاموفوبيا في الجامعات الأميركية، خصوصًا تجاه الطلاب العرب والمسلمين. تقرير مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية أشار إلى أن نحو 49% من الطلاب المسلمين في كاليفورنيا تعرضوا للتمييز، و92% قالوا إن هذه المضايقات تصاعدت بعد الحرب على غزة.
الجهات المؤيدة للعدو الصهيوني، وبدعم سياسي وإعلامي، استغلت المناخ العام لتحويل الهوية الإسلامية إلى شُبهة، وترهيب الطلاب من التعبير عن آرائهم، مما حوّل الجامعات من فضاءات حرة إلى بيئات ملوثة بالخوف والرقابة.
أما الجهات التي تقف خلف هذا التصعيد متعددة:
- اللوبي الصهيوني ومؤيدو الكيان الغاصب في الداخل الأميركي.
- الإعلام التقليدي الأميركي، الذي روّج لسرديات أحادية تُضخم مشاهد الاحتجاج المؤيد لغزة وتربطه بالعنف أو التطرف..
- سياسيون بارزون في الحزب الجمهوري، وعلى رأسهم دونالد ترامب، الذين تبنّوا خطابًا يستهدف المسلمين والأجانب تحت شعار “مكافحة معاداة السامية.
إن ما يحدث هو تسييس متعمّد للهوية الإسلامية، واستخدام لحالة الحرب في غزة كذريعة لتكميم أصوات الطلاب العرب والمسلمين، وخلق مناخ من الخوف والعزلة حولهم داخل الحرم الجامعي.
والأخطر أن الإسلاموفوبيا هنا لا تأتي فقط من الشارع أو الإعلام، بل باتت مدعومة بأدوات الدولة، كالتحقيقات الفدرالية، وقرارات الطرد، والمراقبة، وقوانين تقييد الحريات الأكاديمية، ما يضع مستقبل الطلاب المسلمين في الجامعات الأميركية أمام تحدٍ خطير.
حركة الوعي الطلابي كقوة تغيير
استمرار حركة الوعي الطلابية داخل الجامعات الأميركية، وخصوصاً في مؤسسات النخبة مثل هارفارد وكولومبيا وييل وستانفورد، لا يُعد مجرد حراك شبابي، بل هو تحوّل استراتيجي في الثقافة السياسية الأميركية. هذه الحركة باتت تسائل الرواية الرسمية حول العدو الصهيوني، وتكشف ازدواجية المعايير في سياسات واشنطن الخارجية، في لحظة تاريخية حساسة، حيث تُرتكب جرائم واضحة في غزة أمام أعين العالم.
في الحالة الأميركية، تُشكل الجامعات مركزًا لإنتاج النخبة، وصناعة الخطاب، وتوجيه الرأي العام. وبالتالي، حين يخرج آلاف الطلاب والأساتذة في هذه المؤسسات العريقة للمطالبة بوقف الدعم لهذا الكيان الغاصب ورفع الصوت ضد الإبادة الجماعية في غزة، فإن هذا يُربك بشكلٍ مباشر المؤسسة السياسية والإعلامية والاقتصادية الأميركية.
أبرز التأثيرات يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- إعادة تشكيل الرأي العام.
- ضغط أخلاقي ومؤسساتي على الجامعات والشركات.
- تفكيك الرواية الإعلامية التقليدية.
- تهديد رمزية المؤسسات.
استمرار هذا الحراك الطلابي يعني أن الجيل القادم من الصحفيين، والمشرعين، والأكاديميين، وحتى صناع القرار، يتبنون نظرة أكثر عدلاً وتوازناً تجاه القضية الفلسطينية. ولذلك، يشعر النظام السياسي والإعلامي المسيطر بالخطر، لأن قواعد اللعبة بدأت تتغير من داخل المؤسسات التي كانت جزءاً من ترسيخ الدعم المطلق للكيان الغاصب.
هارفارد.. شرارة مقاومة أم استثناء؟
موقف هارفارد قد يُشكل بداية لموجة رفض أكاديمي جماعي لتدخلات الدولة، خاصةً إذا تواصلت الضغوط والملاحقات. في المقابل، فإن جامعات أخرى قد تختار الصمت خوفًا على تمويلها، ما يُعيد طرح سؤال جوهري: هل ستنجح الجامعات الأميركية في الحفاظ على استقلالها الأكاديمي؟
الجواب قد يتأرجح بين سيناريوهين: إما تصعيد المواجهة القانونية والأكاديمية دفاعًا عن الحريات، أو انكماش داخلي يترك الحرم الجامعي ساحة خاضعة للرقابة والابتزاز.
الحرم الجامعي كساحة معركة سياسية
في النهاية، فإن ما يجري في الجامعات الأميركية ليس مجرد جدل أكاديمي، بل صراع على مستقبل الوعي السياسي في الولايات المتحدة. الهجوم على الجامعات الداعمة لفلسطين هو هجوم على حرية الفكر وحق الشعوب في سرد روايتها.
في مواجهة آلة القمع، فإن الطلاب، بدعم من أساتذتهم والمجتمع المدني، يشكلون خط الدفاع الأول عن القيم الإنسانية. وإذا نجحوا في الصمود، فإن أميركا قد تبقى قادرة على التفاخر بكونها بلد الحريات. أما إذا هزموا، فإنها ستفقد آخر معاقل نقاشها الحر. والجامعات اليوم ليست فقط مراكز للبحث، بل جبهات لمقاومة القمع، والدفاع عن فلسطين أصبح معيارًا أخلاقيًا يُختبر فيه صدق الشعارات الأميركية حول الحرية والديمقراطية.