العلاقة بين الفكر والضّمير

صاحب الضمير الحي هو الذي يكون قادراً بفكره على إحياء الضّمير عند الناس، وصاحب الضّمير اليقظ هو الذي يكون قادراً بفكره على إيقاظ الضّمير عند الناس، لأن مالك الشيء يمكن أن يعطيه، وفاقد الشّيء لا يعطيه

2023-02-14

الكاتب: زكي الميلاد

الضمير هو الّذي يحلي الفكر بالفضائل الأخلاقيّة، ويقوي علاقته بالقيم الإنسانيّة، ويقربه إلى نوازع الخير ويبعده عن نوازع الشّر، وهو الذي يزوّد الفكر بملكة استحسان الحسن واستقباح القبيح من الأقوال والأفعال، وهو الذي يردع الفكر عن الإقدام على ارتكاب الخطايا والشرور، ويحاسبه عند ارتكابها، ويظلّ يؤنّبه عليها للتخلّي عنها، والعودة إلى جادة الصّواب، وهو الذي يظلّ رقيباً على الفكر، وليس هناك ما هو أفضل من الضّمير رقيباً على الفكر.

ولهذا، فإنَّ أخطر ما يصيب الفكر حين تختلّ علاقته بالضّمير، والفكر ليس محمياً من هذه الإصابة ولا محصناً، ويحصل هذا الاختلال بصور عدة، تارةً بقطع العلاقة مع الضمير وجعله ضميراً ميتاً لا حسّ له ولا وجود، وتارةً بقمع نداء الضّمير وجعله ضميراً صامتاً لا نطق له ولا كلام، وتارةً بإطفاء شعلة الضّمير وجعله ضميراً مظلماً لا نور له ولا ضياء، وتارةً بتضليل الضّمير وجعله ضميراً زائفاً لا ردع له ولا حساب.

وحين ينفصل الفكر عن الضّمير، تظهر أخطر النزعات المضادّة للأخلاق وللقيم الإنسانيّة، ومنها نزعة العنصريّة التي تمايز بين البشر، وتفاضل بين أعراقهم وأجناسهم وألوانهم، ومنها نزعات التعصّب والتوحّش، وحتى الرغبة في القتل، إلى جانب نزعات أخرى تكرّس التصادم والتباعد والتفارق بين النّاس فئات ومجتمعات، وحتى أمماً وحضارات.

وما حصل من أوروبّا في حقبتها الاستعمارية، يمثّل أوضح نموذج في اختلال العلاقة بين الفكر والضّمير، وبأعلى درجات الاختلال، فقد ظهرت في سلوكيات الأوروبيين، وتجلّت بصورة خطيرة جميع تلك النّزعات القبيحة، كالعنصريّة والتعصّب والتوحّش، وحتى الرغبة في القتل.

وهذا ما بات واضحاً وموثقاً عند الأوروبيين أنفسهم قبل غيرهم، ولم يعد يتنكّرون له، لكن يصعب عليهم أو على البعض منهم المكاشفة بالاعتذار منه، كفرنسا التي لم تقبل حتى هذه اللّحظة تقديم الاعتذار للجزائر على تاريخها الاستعماري المروّع والطويل الذي تجاوز ما يزيد على قرن وربع قرن، خلال الفترة الممتدّة ما بين (1830-1962م).

وبعيداً عن التوسع في هذا الجانب السيّئ، نكتفي بالإشارة إلى شاهدين يصدق بعضهما بعضاً، الشّاهد الأوّل له علاقة بعالم الأفكار، فحين وصلت أوروبّا إلى إفريقيا واستعمرتها، أجازت للأوروبّيين صيد البشر السّود وبيعهم والمتاجرة بهم، وسوَّغت هذا الفعل البغيض ببعض الأفكار العنصريّة القبيحة، كالزعم بأنَّ الجنس الأسود ليس من البشر، واعتبار أنّ روح الإنسان الأسود سوداء مثله، ووصل الحال بالبعض إلى الزّعم بأنَّ الجنس الأسود لا روح له.

الشّاهد الثاني له علاقة بعالم الأفعال، وقد ذكره المفكّر الفرنسي روجيه غارودي في كتابه (من أجل حوار بين الحضارات)، الصّادر سنة 1977م، وذلك عند حديثه عن قواعد السياسة الاستعمارية المتَّبعة عند الفرنسيين، إذ يرى غارودي أنها ارتكزت إلى ثلاث حجج اقتصادية وإنسانية وسياسية، وحين وصل إلى الحجة الإنسانية، حصرها في هذه المحاورة المرعبة التي جرت في البرلمان الفرنسي، وهذا نصها: (يسأل السيّد كميل بيللوتان: ما هي تلك الحضارة التي تفرض بطلقات المدفع؟

الفكر يمكن أن يسوّغ لمثل هذه الأفكار العنصرية، ولمثل هذه الأعمال البغيضة، ويبرر لها زيفاً وخداعاً، لكن الضمير لا يمكن أن يقبل بها ويرضى عنها، لأنّ الفكر يمكن أن يخطئ، ولكنّ الضمير لا يخطئ، فالضّمير حسب وصف المفكر الفرنسي جان جاك روسو: هو الصوت السماوي الخالد، والحاكم المعصوم الذي يفرّق بين الخير والشر.

ومن هذه الجهة، تتكشّف إحدى أهم صور المفارقة والمفاضلة على مستوى الفكر، بين الفكر الذي يتصل بالضمير والفكر الذي ينفصل عنه، بين الفكر الذي يوقظ الضمير والفكر الذي يخمده، بين الفكر الذي يقوي الضمير والفكر الذي يضعفه، بين الفكر الذي يربي الضمير والفكر الذي يجهله.

والتصادم بين هذين النمطين الفكريين، يظهر أحياناً في التصادم بين نوازع الخير ونوازع الشر، وأحياناً يظهر في التصادم بين دوافع الحقّ ودوافع القوة، أو بين بواعث القيم والأخلاق وبواعث المصالح والمنافع.

لهذا، فإن من يتعاطى مع الفكر كسباً وعطاءً، ينبغي أن يكون صاحب ضمير حيّ ويقظ، فصاحب الضمير الحي هو الذي يكون قادراً بفكره على إحياء الضّمير عند الناس، وصاحب الضّمير اليقظ هو الذي يكون قادراً بفكره على إيقاظ الضّمير عند الناس، لأن مالك الشيء يمكن أن يعطيه، وفاقد الشّيء لا يعطيه.

وصاحب الضّمير لا بدّ أن يظهر ضميره على فكره، ويكون فكره معرِّفاً عن ضميره، فهناك أشخاص تقرأ لهم وتشعر بالرّاحة معهم، والسّكينة لهم، مكوِّنين عن أنفسهم انطباعاً بأنهم يصغون لضميرهم، فيظهرون صادقين في نظر أنفسهم وفي نظر غيرهم، وهذا هو الكاتب الذي يستحقّ أن يكون أميناً على الكلمة.