موناسادات خواسته
عبق الشعر والأدب الفارسي منتشر في جميع أرجاء العالم، وهناك شعراء إيرانيون ذاع صيتهم في مختلف البلدان وتمت ترجمة أثارهم بعدة لغات، ويرددها الجميع بلغات مختلفة، فمنهم سعدي الشيرازي الذي تزين جدار منظمة الأمم المتحدة بأبياته الشهيرة، يصادف اليوم ذكرى تكريمه، فبهذه المناسبة إغتنمنا الفرصة وأجرينا حواراً مع الدكتور محمدعلي آذرشب، أستاذ جامعة طهران الذي قام بترجمة وكتابة أفضل الكتب والمقالات التي حصلت على جوائز دولية، يعرفه الجميع بتأليفاته ونشاطاته الكثيرة، له عدّة مقالات حول سعدي الشيرازي، وفيما يلي نص الحوار:
سعدي الشيرازي في العالم العربي
يبدأ الدكتور آذرشب حديثه بالإشادة بالصحيفة قائلاً: صحيفة “الوفاق” جدير بها أن تهتم كثيراً بسعدي، لأنه أكبر شعراء الوفاق في الأدب الفارسي بل في الأدب العالمي، الوفاق بين الإنسان وأخيه الإنسان، الوفاق بين الإنسان والطبيعة، الوفاق بين الإنسان وربه، ومن هنا فإن إهتمامكم بسعدي في هذه المناسبة هو اهتمام في محلّه وأشكركم على هذه الإلتفاتة.
وتابع الأستاذ: بداية أقول لكم أن سعدي هو الأديب، وما هي قيمة الأدب والأديب في الساحة التاريخية والإجتماعية؟، ما هي الأهمية؟
دور الأدب في حياة الشعوب، ذو أهمية بالغة، وهو يحافظ على الذوق البشري والمعنويات الإنسانية من الإنتكاس، الجماعة الإنسانية حيّة، بأي شيء؟، بما تمتلكه من مقومات الحياة، وما هي هذه المقومات؟، أهمها هو الذوق الإنساني والمشاعر الإنسانية وإذا ضعفت هذه المقومات ضعفت الجماعة، وفقدت دورها على الساحة التاريخية، إذن المسألة في غاية الأهمية عن دور الأدب والأديب، وشاعرنا سعدي الشيرازي، من أولئك المصلحين الذين عاشوا في أحلك الظروف الإجتماعية، حيث تفاقمت خطوب الجهل الداخلي، والغزو الخارجي لتمزق وجود الأمة، وماذا فعل سعدي؟
حمل قيثارة أدبه وظل يعزف عليها في أرجاء العالم الإسلامي ليكون له الدور الخالد في مخاطبة جيله وكل الأجيال، بأي لغة؟ بلغة تنفذ إلى القلب والروح وتوقظ المشاعر الإنسانية، هذه لغة الأدب، توقظ المشاعر الإنسانية، من سباتها وترفع الإنسانية إلى حيث أراد لها بارئها، من عزة وكرامة، في كتابه “كلستان” أو “روضة الورد” يشير إلى أن رسالته الأدبية تجاوزت حدود المكان حتى في عصره، وأصبحت أحاديثه متداولة على كل لسان، وكما يذكر في مقدمة كتاب “كلستان” ويقول عن نفسه: “فذكره الجميل تناقلته الأفواه، وكلامه سرى في الأرض، وحديثه يرتشفه الناس، كقصب السكر، ورقعة مُنشآته تتداولها الأيدي كورقة ذهبية”.
“سعدي” من رموز وحدتنا الحضارية، بداية أقول لكم أن العالم الإسلامي ينتظره مستقبل عظيم على الساحة العالمية، إن أحسن إستعمال ما يمتلكه من مقومات حضارية، إن طريق التطور التقني في السلاح والإرتباطات، وفي سائر المجالات قد ظهر وغطّى على عظمة وجود أمتنا الحضارية، لكن الدور الذي سيبقى لأمتنا هو نور الحضارة الإسلامية، التي لا ينافسها هناك على الساحة العالمية، أعود إلى سعدي الشيرازي وأقول، هو من رموز حضارتنا الإسلامية والعالمية أيضاً، فهو إضافة إلى خطابه الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، استطاع أن يقدّم النموذج الرائع للإمتزاج الحضاري بين الإيرانيين والعرب.
هذا الإمتزاج نشاهده في ما خلّفه لنا من تراث، مؤلفاته مزجت بين العربية والفارسية، بحيث لا يمكن أن يطالعها أحد إلا أن يكون ملّماً باللغتين الفارسية والعربية، ولم يكن ذلك مصادفة، بل تعمّد في ذلك فيما أعتقد، ليثبت أن الإمتزاج هذا يبلغ إلى اللغة بذروة الكمال.
سعدي الشيرازي يخاطب الفطرة الإنسانية
عندما سألنا الدكتور آذرشب عن رأيه حول سبب إنتشار أفكار سعدي الشيرازي في العالم، قال: لأن سعدي يخاطب الفطرة الإنسانية التي هي واحدة في الشرق والغرب، “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ” (الروم/30)، فهو يخاطب الفطرة، لأن سعدي الشيرازي عاشق بالمعنى العرفاني، والعاشق بهذا المعنى، هو الذي يغلي قلوب المشاعر النبيلة، التي تدفعه إلى حب الجمال والكمال الذي هو مسألة إنسانية فطرية، لا تقتصر على شعب وشعب، كل الشعوب في العالم، وفي كل القارّات، لهم عشق للجمال والكمال، والعاشق لا يستقر، ولا يقنع ولا يستثني الظروف، بل يتحرك رغم الصعاب، على طريق الجمال، على عكس الإنسان ضعيف الهمة، الذي لا يهتز أمام السحر، ولا يطرب أمام الجمال، ان تنمية ذوق الجمال هدف كل الأنبياء عليهم السلام، لأنه يدفع الإنسان للحركة نحو الجمال المطلق، والجميل المطلق هو الله سبحانه وتعالى، والكائن البشري معرض للقبائح والسيئات، ونحن اليوم بأمس الحاجة لتنمية ذوق الجمال لشبابنا، لكي يطلبوا الجمال في جميع مجالات الحياة، ويعرضوا عن القبيح في المظهر والسلوك، والذوق الجمالي يُبعد الشباب عن الوقوع في مستنقع الرذيلة، لأن الشاب إن تحلى بالذوق الجمالي، يستطيع أن يفهم قبح الرذائل، ويفهم الفرق بين الجمال الحقيقي وعكسه.
الفتوة عند سعدي الشيرازي
بعد ذلك دار الحديث عن مقال للأستاذ أشار فيه إلى الفتوة عند سعدي الشيرازي قائلاً: هذا المقال قد كتبته إلى مؤتمر “الفتوة” في الجزائر، طُلب منّي أن أكتب عن الفتوة في إيران، ذهبت إلى كتبٍ كُتبت عن الفتوة في إيران، فوجدت أن السعدي الشيرازي هو في سلسلة فتوة السقّائين، ونحن كنا نقرأ عن سعدي بأنه امتهن السقاية لكل شيء ولإمرار معاشه، ولكن بعد ذلك عرفت أنه لم يعتاش على السقاية، لأنه كان متمكناً في الشام، صاحب ثروة،ولديه خدم وحشم، إنما كان في سلسلة السقائين، من أجل فتوة السقائين، وبالمناسبة، حينما قرأت أكثر عن فتوة السقائين وجدتها أنها تنتمي إلى العباس بن علي (ع)، لأنه ساقي عطاشى كربلاء، أنا كتبت هذا المقال وهممت أن آخذه الى الجزائر وقبل أن أذهب الى الجزائر وجدت أن الإخوان في الجزائر طلبوا منّي “كفّ العباس(ع)” فاشتريت “كف العباس” (المعدني طبعاً)، وذهبت إلى الجزائر، وسألتهم: من هو العباس(ع)؟
فقالوا: لا نعرفه، هذه الكف وصلتنا من العصر الفاطمي باعتبارها رمزا للفتوة، فسعدي الشيرازي هو من شخصيات الفتوة في التاريخ الإسلامي، في سلسلة فتوة السقائين، وطبعا فتوته قائمة على أساس الدعوة إلى الجمال والعشق، وإلى أن يكون الإنسان مرتبطاً بالكون، ارتباطاً يبارك العمر و يزكيه، ويرفعه ويجعل العلاقة بين الإنسان والكون، علاقة العاشق بالمعشوق، طبعاً سعدي يضع العاشق مقابل الأناني، عابد الذات، وبذلك يدعو أن يكون الإنسان عاشقاً، يُنشد الجمال بعيداً عن الذاتية والأنانية، ومندفعاً دائماً ليقدّم الخير والعطاء للبشرية جمعاء، ويقول في أحد أبياته: “هركسي را نتوان گفت كه صاحب نظر است/ عشق بازي دگر ونفس برستي دگر است” أي ” لا يُمكن أن يُقال عن أي شخص بأنه صاحب نظر ورؤية/ فالسير على طريق العشق شيء وعبادة النفس شيء آخر”، هذا بتلخيص ما يمتاز به سعدي الشيرازي بمخاطبة البشرية، من خلال منطق العشق والتخلص من الذاتية والأنانية.
سعدي والأدب العربي
أما عن العلاقة بين سعدي الشيرازي والأدب العربي يقول الدكتور آذرشب: سعدي تأثّر في الأدب العربي، وأثّر فيه، وأكثر تأثّره كان بالمتنبي، ولذلك نجد أن هناك خطابا مشتركا بين سعدي والمتنبي وبالمناسبة أستاذنا الدكتور حسين علي محفوظ هو أول عراقي تخرّج من قسم اللغة الفارسية وبعد ذلك كتب رسالته الدكتوراه تحت عنوان “سعدي والمتنبي” بالعربية، وبالفارسية.
وفي الختام يقول الأستاذ: اهتمام العرب بسعدي هو اهتمام بوحدة الدائرة الحضارية الإسلامية، كثير من الأدباء العرب ترجموا “كلستان” و “بوستان” إلى اللغة العربية، نثراً وشعراً، من المصريين والسوريين والعراقيين، ومن هنا فإن سعدي يُمكن أن نعتبره من رموز وحدتنا، والمقصود بوحدة الدائرة الحضارية الإسلامية هو أن العالم الإسلامي بأجمعه من طنجة إلى جاكارتا، يمثل دائرة حضارية واحدة ومن رموزها سعدي الشيرازي، فوفقكم الله في الوفاق بين العرب والإيرانيين وبين أهل السنة والشيعة وبين فصائل العالم الإسلامي بأجمعها.