عبير شمص
في وقت تتعالى فيه أصوات التضامن مع الشعب الفلسطيني، تتّخذ بعض الدول الغربية مسارًا مقلقًا يتمثل في قمع المظاهرات المؤيدة لغزة، والتضييق على من يرفعون العلم الفلسطيني أو يرتدون رموزه، بل وامتد الأمر إلى استهداف أكاديميين وطلبة جامعات بسبب مواقفهم، لذلك أجرينا حواراً مع الدكتور ماجد جابر، الخبير التربوي والسياسي اللبناني، لنقف عند أبعاد هذه الظاهرة وانعكاساتها على حرية التعبير، وما إذا كانت المؤسسات الأكاديمية لا تزال قادرة على حماية الحرية الفكرية في ظل هذا الانحراف الخطير، وفيما يلي نص الحوار :
يشير الدكتور جابر إلى أن ما يُقدَّم كـ”قمع مفاجئ” في دول تتغنّى بالديمقراطية ليس سوى انكشاف لهشاشة الخطاب الليبرالي الغربي حين يواجه تحديات الحقيقة والعدالة. إذ تتحوّل حرية التعبير، كما يوضح، من حق كوني إلى امتياز مشروط يُمنح ويُسحب وفق ميزان المصالح، خاصةً عندما تُرفع أصوات داعمة لفلسطين أو ناقدة للكيان الإسرائيلي. هذا التناقض، كما يلفت، تجلّى بوضوح في طرد طلاب، منع فعاليات، وملاحقة أكاديميين، بل وإلغاء محاضرات كما في جامعة شيفيلد، بدعوى “إثارة الجدل”. ويضيف الدكتور جابر أن القمع لم يقتصر على الجامعات، بل امتدّ إلى الملاعب الرياضية، إذ مُنعت رموز التضامن، كأن يُمنع أبٌ من حضور مباراة ابنه بسبب ارتدائه الكوفية ، فضلًا عن تفتيش الجمهور بذريعة الأمن. ويشدّد على أن ما يحدث ليس استثناءً عابرًا، بل إعادة رسم خفية لحدود حرية التعبير، تفضح نظامًا ادّعى عالميته، فسقط عند أول اختبار أخلاقيّ: إنصاف الضحية.
التضامن كتهديد؛ حين يُجرَّم الحق الإنساني
يشير الدكتور جابر أن السبب الجوهري في تجريم التضامن مع فلسطين في بعض الدول الغربية يعود إلى هيمنة رواية أحادية لا تحتمل أي سردية مضادّة. ويشير إلى أن رفع لافتة تُدين القصف على غزة لا يُفهم كفعل إنساني، بل يُعامل كخطر على “النظام العام”. ويحذّر من خطورة تأطير المواقف الأخلاقية ضمن مقاربات أمنية، حيث يتحوّل المتضامن إلى مشتبه به، لا إلى صاحب حق. ويشدّد على أن هذا الانزلاق المفاهيمي لا يعكس خوفًا من العنف، بل من الحقيقة، ويؤكد أن التعامل مع الدفاع عن الضحية كجريمة هو إهانة للعقل والضمير الإنساني، وخرق صارخ لمبدأ العدالة الأخلاقية.
من التنوير إلى الترويض؛ الكوفية كرمز تحت رقابة التربية
يرى الدكتور جابر أن ما تشهده الجامعات الغربية من طرد ومنع بسبب رفع العلم الفلسطيني أو ارتداء الكوفية يكشف عن انهيار عميق في جوهر المنظومة التربوية، التي تحوّلت من فضاءٍ لبناء الإنسان الحر إلى أداة لضبط الولاء الأيديولوجي. ويشير إلى أن محاسبة الطلاب والأساتذة والباحثين على قناعاتهم السلمية، وتعامل رموزهم الثقافية كتهديد، يُسقط فلسفة “التعليم من أجل المواطنة”، ويستبدل الحوار بالخوف والانتماء بالصمت. ويشدّد الدكتور جابر على أن هذه ليست حوادث فردية معزولة، بل مؤشرات على خلل بنيوي في خطاب تربوي يُدرّس حرية التعبير في القاعات، ويقمعها في الواقع، لتغدو التربية أداة للترويض لا للتحرير.
الوعي الجمعي الغربي بين الصدمة الأخلاقية والتكيّف مع القمع الناعم
يعتبر الدكتور جابر أن ما يجري في الغرب اليوم هو لحظة مفصلية في تشكيل الوعي الجمعي، إذ تُختبر فيها قدرة المجتمعات على التمييز بين القيم التي تُرفع شعارات وبين الممارسات التي تُفرغها من مضمونها. ويشير إلى أن الإجراءات القمعية المتزايدة تجاه المتضامنين مع فلسطين تخلق نوعًا من “الصدمة الأخلاقية”، خاصةً في الأوساط الأكاديمية والشبابية، مما قد يدفع إلى مراجعة ذاتية عميقة لدى بعض الفئات. لكن في المقابل، يُحذّر الدكتور جابر من خطر التكيّف التدريجي مع القمع، حين تُطبع الرقابة وتُبرّر كـ”إجراء أمني”. فالمشكلة، برأيه، لا تكمن فقط في السياسات القمعية، بل في قابلية المجتمع لتقبّلها من دون مقاومة. ما نراه اليوم هو صراع بين وعي يُستفز ليستفيق، ووعي يُدرَّب على الصمت باسم الاستقرار.
هشاشة الانتماء في الغرب: كيف يُقوَّض الوجود العربي تحت ضغط الاستهداف؟
يحذّر الدكتور جابر من الأثر العميق الذي يخلّفه الاستهداف الممنهج للعرب والفلسطينيين في المجتمعات الغربية، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على صعيد الهوية والانتماء. ويشير إلى أن الإنسان العربي – سواء كان طالبًا أو باحثًا أو مقيمًا – بات يعيش في ظل مناخ من الريبة والتوجس، إذ يُربَط تلقائيًا بأي موقف تضامني مع فلسطين، ويُحمَّل عبء تبرير إنسانيته أو تلطيف انتمائه ليحظى بالقبول.
ويرى الدكتور جابر أن هذا الضغط الناعم – الظاهر في أشكال قمعية كالصمت القسري، أو الرقابة الذاتية، أو حرمان الأفراد من فرص أكاديمية أو مهنية بسبب مواقفهم الأخلاقية – هو نوع من العنف الرمزي الخطير. فحين يُجبر العربي على إخفاء مشاعره، أو على التنصّل من قضاياه، لا يعيش حالة اغتراب وحسب، بل يدخل في صراع داخلي يهدّد استقراره النفسي وتوازنه الهويّاتي.
ويؤكد جابر أن تواطؤ بعض المؤسسات مع هذا القمع، عبر الصمت أو التبرير أو الاستنسابية في حماية حرية التعبير، يجعل من الغرب فضاءً مأزومًا أخلاقيًا، تتهاوى فيه قيم كان يُفترض أنها غير قابلة للمساومة. فالمؤسسات التي طالما تغنّت بالحريات الفردية، تُسهم اليوم في إنتاج كائن عربي هشّ، معزول عن جذوره، ومُرغم على النسيان كي يستمر.
يؤكد الدكتور جابر أن ما يحدث اليوم في الجامعات الغربية لا يُمثّل اختبارًا للحرية الأكاديمية، بل سقوطًا مدوّيًا يكشف زيف الشعارات التي طالما رفعتها هذه المؤسسات. ويشير إلى أنه حين تُمنع فعاليات، وتُقمع أبحاث، ويُجبر أساتذة على الاستقالة لمجرد استخدام مصطلحات كـ”إبادة جماعية”، فإن الحرية الأكاديمية تتعرّى من جوهرها، وتتحوّل إلى ديكور يُفعَّل انتقائيًا ويُطوى عند أول تصادم مع مصالح السلطة. ويرى أن ما نشهده هو رقابة ناعمة تُمارس باسم الديمقراطية، تؤدي إلى اهتزاز الثقة، وانكشاف تحيّز عميق، وفضيحة أخلاقية تُسجَّل في ذاكرة التعليم العالي كعار يصعب محوه..
من التهميش إلى التشبيك؛ نحو حركات فكرية عابرة للحدود
يرى الدكتور جابر أن التمييز الممنهج ضد الطلاب العرب والمسلمين في الجامعات الغربية قد يتحوّل إلى محفّز لنشوء حركات فكرية بديلة وعابرة للحدود، تُعيد تشكيل التحالفات الأكاديمية على أسس أكثر عدالة وتحررًا من الهيمنة الثقافية. ويشير إلى أن الاستهداف، بدل أن يُسكت هذه الأصوات، قد يدفعها إلى بناء شبكات تضامن تمتد إلى الجنوب العالمي، تُنتج معرفة تُزاوج بين الانتماء المحلي والرؤية الكونية، وتسعى إلى إعادة تعريف مفاهيم مثل الحرية الأكاديمية من منظور غير استعماري. ويؤكد أن هذه الحركات قد تنطلق من الهامش، في قاعات الدراسة والمنصات المستقلة، لكنها تحمل في طياتها بذور تحوّل تراكمي في الخطاب الأكاديمي العالمي.