بمعزل عن الخلاف على التوصيف بين روسيا من جهة وبين أغلبية الدول الغربية والأمم المتحدة من جهة أخرى؛ بأنّ روسيا استعادت القرم أو احتلت القرم، وبمعزل عن نجاح روسيا أو فشلها في الاحتفاظ بشبه الجزيرة الأهم على البحر الأسود، كان تشريع السيطرة الروسية دوليّا عليها العقبة الرئيسة التي تحتاج إليها موسكو دائمًا وتؤرقها دائمًا، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، اليوم، ولغايات ولأهداف متعددة ومتداخلة، ويقدم الخدمة الأغلى للرئيس الروسي فولوديمير بوتين بإعلان استعداده الاعتراف بأنّ القرم أراضٍ روسية، وليدعم إعلانه هذا الصادم للكثيرين، وخاصة للأوروبيين حلفاء أميركا التقليديين بتهديد الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بأنّ عدم تجاوبه مع الصفقة التي يرعاها اليوم لإنهاء الحرب مع روسيا، وضمنا البند الأهم “روسية القرم”، سوف يؤدي إلى خسارة أوكرانيا أراضيها كلها، خلال ثلاث سنوات في الحد الأقصى.
لذلك؛ السؤال: ما هي الأسباب والدوافع والأهداف التي جعلت ترامب يقدم هذه الهدية الغالية جدًا للرئيس بوتين؟ وماذا عن التأثيرات الإستراتيجية التي سوف تحصل على مسرح الصراعات الدولية، في ما لو سلكت التسوية الأميركية للحرب بين روسيا وأوكرانيا، ومنها تشريع القرم أراضٍ روسية ؟
بداية؛ لا يمكن فصل استعداد ترامب الاعتراف بروسيّة القرم عن الصفقة الكبرى التي يحضّر لها، اليوم، لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا، والتي يُعّد البعد الاقتصادي الأهم فيها، حيث ستحصل واشنطن ضمن هذه التسوية – الصفقة على نسبة كبيرة من ثروات أوكرانيا؛ وخاصة في الدونباس مع زابوراجيا وخيرسون، وتحديدًا من الحبوب والمعادن، بمختلف استعمالاتها وضمنًا الأغلى عالميًا والنادرة، حيث بحسب تصنيف هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، هناك 50 معدنًا تعدّ بالغة الأهمية، تشمل المعادن النادرة؛ مثل النيكل والليثيوم.
هذا؛ بالإضافة إلى عناصر أرضية نادرة؛ مثل: اللانثانوم والسيريوم يستخدمان في تصنيع أجهزة التلفزيون والإضاءة، والنيوديميوم الضروري لتوربينات الرياح وبطاريات السيارات الكهربائية، بالإضافة إلى الإربيوم والإيتريوم اللذين يمتد استخدامهما من الطاقة النووية إلى تقنيات الليزر.
انطلاقًا من هذه الثروة المعدنية التي ستحصل واشنطن على نسبة مقبولة منها من أراضي أوكرانيا، وانطلاقًا من مستوى حركة النقل الضخمة المقدرة للتعامل مع هذه الثروات ونقلها، تشكّل شبه جزيرة القرم والأقرب إلى أراضي جنوب شرق أوكرانيا نقطة الارتكاز الأهم لاستيعاب هذه الحركة، عبر موانئها الأساسية على البحر الأسود. ومن هنا؛ سيكون اعتراف ترامب بروسية القرم جواز المرور الإجباري لحصول واشنطن على قاعدة النقل والتوزيع الأنسب في البحر الأسود، حيث تسهيل الروس وموافقتهم لذلك سيعدّ بمثابة رد الجميل للأميركيين.
كذلك؛ وبعيدًا عن الجانب الاقتصادي واللوجستي، لن يكون مستبعدًا حصول واشنطن على أكثر من نقطة انتظار واستراحة عسكرية للسفن الحربية الأميركية، والتي طالما كان الوصول إلى موانىء شبه جزيرة القرم وموانىء بحر أزوف والسواحل الشمالية الشرقية للبحر الأسود حلمًا يراود الأميركيون دائمّا.
للوقوف عند التأثيرات الإستراتيجية على الاعتراف الأميركي بروسية القرم، يمكن الإشارة إلى عدة جوانب منها؛ وأهمها:
١- إعلان ضمني برعاية أميركية لانتصار روسيا على الأطلسي في الحرب مع أوكرانيا، والتي كانت الولايات المتحدة الأمريكية رأس الحربة فيها، تخطيطًا وتنفيذًا ودعمًا.
٢- مع معارضة الأوروبيين الواضحة والعنيدة لهذا الاعتراف بروسية القرم، أصبح حلف شمال الأطلسي مهددًا بقوة نحو الزوال، خاصة مع إجراءات ترامب الأخرى (الضغوط المالية)؛ والتي تمهّد لزواله.
٣- تثبيت وتشريع نقطة الارتكاز الأغلى لروسيا، في صراعاتها الاستراتيحية، بمواجهة الغرب والأوروبيين تحديدًا؛ حيث شبه جزيرة القرم تشكّل القاعدة الدفاعية والهجومية الأكثر تاثيرًا في هذه الصراعات التاريخية.
هكذا؛ يكون الرئيس ترامب، وباعترافه بروسية القرم، قد دقّ الأسفين الأكثر تأثيرًا في أمن أوروبا الاقتصادي والقومي، ولأهداف ومصالح تجارية واقتصادية، يكون قد باع مروحة واسعة من التحالفات التاريخية التي بنت عليها الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال ردحٍ من الزمن، علاقاتها الدولية والاستراتيجية.
شارل أبي نادر