العفو والصفح الجميل

صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ...

صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ…

 

مِن مَكارم الأخلاق

 

قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «عليكم بالعفو فإنّ العفو لا يزيد العبد إلّا عِزّاً، فتعافوا يعزّكم اللّه».

 

من المعلوم أن ملكات الخير تضفي على الإنسان كمالاً روحياً، ثم ينعكس هذا الكمال من الروح على كيان الإنسان ومظهره الخارجي، فنرى إتزاناً عظيماً في الشخصية، وعدالة خالصة في السلوك، وبياناً وحكمة في المنطق، ورأفة ورحمة في التعامل. وهذا هو هدف الإسلام وهدف كل الرسالات السماوية، أي: خلق وصناعة الإنسان بالصياغة والأسلوب الذي يؤدي إلى رقيّه وكماله وتقدمه.

 

ولهذا نرى التركيز على كل مفردة من مفردات الكمال.

 

ومن هذه المفردات: العفو، لا سيما العفو عند المقدرة. بل نرى أن اللّه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه صفة العفو، وأنه سبحانه يحب كل من تحلى بهذه الصفة، لأنه سوف يلتقي مع اللّه عزّ وجلّ بواسطة هذه الكمالات، وسيكون اتصاله وعلاقته مع اللّه من أشرف العلاقات وأكثرها روحانية. لذلك نرى التركيز من القرآن الكريم على هذه الصفة؛ قال تعالى: (فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ).

 

ومن هذا يتبين لنا أن صفة العفو من مهمات مكارم الأخلاق، ومن النقاط الأساسية في الشخصية المؤمنة، بل من الجوانب المشرقة التي يحبّها اللّه عزّ وجلّ، ويدعو لها، وكذلك جاء أنبياء اللّه ورسله كلهم متحلين بهذه الصفة. ولعلها من أبرز أخلاقهم، وبواسطتها استقطبوا الناس حولهم، ووجهوهم نحو العبودية الخالصة للّه عزّ وجلّ. وقصة عفو رسول اللّه (ص)، عن أهالى مكة بعد الفتح، كالنار على العلم، وكالشمس في رابعة النهار، بعد أن ارتسم الموت في مخيّلة كل واحد من القرشيين. إذ اعتقدوا أن الرسول سوف يقتلهم، ولكنهم فوجئوا بعفو النبي (ص) عنهم، مع ما لاقاه منهم من حرب ومشاغبة ومحاولات عديدة لقتله وتعذيب أصحابه… ولكن في الوقت نفسه كان عفوه عنهم بمثابة التبليغ للدين الإسلامي، بل إن صدى العفو بقي حتى في أجيال الذين عفا الرسول (ص) عنهم، فكانوا يسمون بـ (أولاد الطلقاء).

 

مراتب العفو

 

هناك مراتب للعفو والمغفرة تعدّدت بسبب اختلاف وتعدد مراتب الذنب والجرم. إذ كلما اختلف وتعدد الأخير اختلفت مراتب العفو بمقتضاه. فالمتبادر إلى أذهان الناس أن الذنوب نوعان:

 

الأول: هو مخالفة الأحكام الشرعية وعدم تطبيق ما أمر اللّه به.

 

والثاني: هو التعدي على حقوق الناس سلباً ونهباً وغصباً.

 

وهذه الحقوق حقوق مادية أو فكرية أو اعتبارية، كالغيبة التي تسقط اعتبار الإنسان في الوسط الإجتماعي، فيعد ذلك ذنباً عرفاً وتعدياً إلى جانب حرمته. ولكن بنفس الوقت هناك تفاوت في كل مرتبة من هذه الذنوب؛ فمن سرق حبة الحنطة غير الذي سرق الملايين، ومن سلب قميصاً من أحد غير الذي سلبه ملكه كله. ومن أخلّ بالصوم أو ارتكب كبيرة غير الذي ارتكب الكبائر، وترك جميع الواجبات، وأتى بجميع المفاسد، وأراق الدماء، وهتك الأعراض… ، فهذا التفاوت في الذنوب يوجب التفاوت في مراتب العفو والمغفرة أيضاً. ففي القسم الأول تكون المغفرة والعفو الإلهي، والثاني هو عفو الناس بعضهم عن البعض.

 

كيف نفهم العفو؟

 

الإنسان في هذه الحياة لا ريب من أنه يحتاج إلى لطف اللّه عزّ وجلّ ورحمته، ويطمع في النجاة من كل ألوان العذاب، لا سيّما عذاب الآخرة. والذنوب والمعاصي والشرك والكفر… كلها تبشر الإنسان بما لا يحب، فهي ظلمات وعذابات في الآخرة، وشقاء في الدنيا، بسبب تبعاتها، يقول تعالى: (أَوۡ كَظُلُمَٰتٖ فِي بَحۡرٖ لُّجِّيّٖ يَغۡشَىٰهُ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجٞ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابٞۚ ظُلُمَٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَآ أَخۡرَجَ يَدَهُۥ لَمۡ يَكَدۡ يَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ يَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورٗا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ) بعكس الإيمان والطاعات التي هي نور في الآخرة، قوله سبحانه: (نُورُهُمۡ يَسۡعَىٰ بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَبِأَيۡمَٰنِهِمۡ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ).

 

فالعفو من اللّه عزّ وجلّ بمنزلة إزالة كل الأسباب والدواعي التي تكوّن الظلمات للإنسان، وتؤدي به إلى العذاب. وبمعنى آخر: إن المذنب بعد أن ابتعد عن لطف اللّه ورحمته يغفر له ويعفى عنه، ويردّه مرة أخرى إلى ألطاف اللّه ورفقه به، بعد أن تولدت عنده أسباب كانت بمثابة الموانع من التنعم بألطاف اللّه، فيكون العفو مزيلاً لكل الموانع التي من شأنها أن تبعد الإنسان عن قبول الفيض الإلهي. وكلما انكشفت تلك الموانع (الذنوب) عن الإنسان إزداد إشراقاً وإيماناً، بسبب قبوله لعناية اللّه له وفيضه عليه، ولذلك قالت الآية: (رَبَّنَآ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَآۖ). فهؤلاء لديهم نور، ولكن بقي هناك شيء من الموانع والأسباب، فيطلبون من اللّه أن يزيل عنهم كل الأسباب والموانع بالمغفرة، لكي يتم نورهم ويدخلوا الجنة.

 

أما عفو الإنسان فهو بمعنى عدم ترتب الأثر، وهذا على نحوين:

 

الأول: عفو مع عتاب ومساءلة وكلام، مع عدم ترتب الأثر.

 

الثاني: عفو مطلق بلا عتاب، وخال من كل شيء، بل أحياناً يكون مع المكافأة على نفس طريقة المولى عزّ وجلّ، والذي أطلق عليه القرآن مصطلح (الصفح الجميل). أي: بلا عتاب أو مساءلة، وأيضاً قوله تعالى: (وَلۡيَعۡفُواْ وَلۡيَصۡفَحُوٓاْۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ). وهذا نلمسه بوضوح عند الرسول الأكرم والأئمة الكرام صلوات اللّه وسلامه عليهم،

 

العَفو عند المَقدرة

 

نعم يتسامى الإنسان، ويرتقي في سلم الكمال، عندما يصفح ويعفو ويغفر، وهو في موقع القدرة. يحكى أن الوليد بن عبد الملك عندما تسلم مقاليد الحكم بعد عبد الملك، حاول أن يكسب الناس، ويمحو الآثار السيئة لعبد الملك، فعزل والي المدينة هشام بن اسماعيل الذي كان دأبه مضايقة العلويين، لا سيما الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وإيداعهم السجن واتهامهم، ومنعهم بعض الحقوق…

 

فعندما عُزل وجرّد من أسباب القدرة أمر الوليد أن يوقف للناس ونادى في الناس أن كل من كانت له مظلمة عند هشام فليأته ويفعل به ما يشاء، فكان الناس يأتون ويبصقون في وجهه ويضربونه، وكان هشام يقول ما أخاف إلّا من علي بن الحسين، ولكن الإمام (عليه السلام) كان قد تقدم إلى خاصته ألّا يعرض له أحد منهم بكلمة… وقد مرّ الإمام (عليه السلام) أمام هشام مسلّماً‌ عليه، وأبدى له الاستعداد بمساعدته دون أي إهانة أو إيذاء لذا نادى هشام حينها: اللّه أعلم حيث يجعل رسالته(12). لهذا ترك الناس إهانة هشام عندما شاهدوا فعل الإمام (عليه السلام) معه.

 

مِن فوائد العَفو

 

لا يخفى أن لِكلّ ملكة من ملكات الخير والكمال فوائد عديدة كالشجاعة والصدق والكرم والعلم… والعفو بما أنه واحد من تلك الكمالات وقد نعت اللّه عزّ وجلّ به نفسه، فبلاشك تقع وراء صفة العفو العديد من الفوائد والمنافع والمصالح الحسنة، وإلّا كيف نفسر اتصاف المولى بها وأمره بها أيضاً.

 

ومن هذه الفوائد نذكر:

 

1- العفو يفتح آفاقاً جديدة مع الآخرين، ويوفر لنا فرص الإلتقاء معهم بدل أن نفقدهم بالعقاب أو العتاب المُرّ، فوجود الناس بعضهم حول بعض أفضل بكثير من تشتتهم، فإن القصاص والعقاب حق، ولكنه يؤدي إلى نهاية العلاقات عادةً، أما العفو فإنه يجرد العلاقات، ويقوي العواطف، ويرفع الضغائن التي في القلوب، ويحسّن صورة الشخص عند الطرف المقابل. ولذلك كان الاستغفار أماناً لأهل الأرض، لأنه يرفع تبعات الذنوب، فتتجرد فرصة أخرى للعبد، ويعطي اللّه عزّ وجلّ أملاً جديداً للمكلف بعفوه عنه. وصفة العفو التي امتاز بها اللّه عزّ وجلّ هي التي تُلهم العباد الحركة والسعي والجد والاستغفار وتجديد الأمل وعدم اليأس من روح اللّه. وهكذا العفو بين الناس، فإنه مدعاة لأن يتناقص عدد الأعداء، ويأخذ رقم الأصدقاء والأصحاب بالصعود، وهكذا كان الأئمة (عليهم السلام) يعملون، فبعفوهم كانوا يجذبون الناس حولهم لا سيّما أعداءهم.

 

2- العفو يزيد الإنسان عزّاً ويرفع من مقامه ومكانته في قلوب الناس، لأن جنبة الإيثار سوف تكون واضحة المعالم في الشخص العافي، وهي مما يحبّها الناس، لأن الذي يعفو عن خصمه وعدوه، معنى ذلك أن يتنازل عن حقه، ولا يهتم بنوازع نفسه، وهمسات الشيطان، بل يكون ناظراً إلى مصالح الشخص المقابل، فيعفو عنه ليفتح له نافذة جديدة في الحياة وأملاً جديداً. فمن المعلوم أن القصاص أو العتاب أو العقاب أمر يرضي النفس، لأنها تشعر بالارتياح مقابل ما أخذ منها أو أعتدي عليها، وكذلك القصاص يرضي القوة الغضبية، ويرضي باقي الشهوات النفسية.

 

ومع ذلك يخالف الإنسان العافي هواه ويصفح عن الخصم، ليدلّل على سموه وكماله وتحرره من قبضة الشيطان أو قبضة الشهوات، وبهذا الأسلوب يزداد عزّاً في نفسه ومكانة عظيمة في قلوب الناس، ولذلك قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في حديثه: «… فإن العفو لا يزيد العبد إلّا عزاً…».

 

3- وبهذا الشكل يكون العبد قد إتصف بالصفة التي يحبها اللّه، والتي إتصف هو بها ـ ولكن لا يخفى الفرق بين الأمرين ـ فيزداد قرباً من اللّه تعالى، لأنه تخلّق بأخلاق اللّه وأخلاق رسله وأوليائه. وإلى هذا المعنى أشار الرسول (صلى الله عليه وآله) في ختام حديثه «… فتعافوا يعزّكم اللّه»).

 

 

 

 

المصدر: شبكة النبأ

الاخبار ذات الصلة