قراءة في الإستراتيجية الدفاعية للدول وأهم أركانها ومحدّداتها

في عالم يسوده غياب الفانون الدولي وفوضى في إدارة الصراعات، بسبب التغيرات المستجدة على موازين القوى وصعود أقطاب جديدة لإعادة التوازن القطبي، يكتسب الحديث عن الإستراتيجيات الدفاعية للدول أهمية كبرى، ولا سيما الدول الصغيرة التي هي عرضة للاستباحة وانتهاك السيادة، وحتى الاحتلال، على خلفية التعاطي معها كونها مربعًا صغيرًا في رقعة للشطرنج في إطار الصراع الدولي بين القوى الكبرى.

إنّ وجود استراتيجية دفاعية أمر مشترك بين القوى الكبرى والدول الصغيرة، وإن اختلفت المحددات والموارد والتفاصيل ووسائل الردع، ولكنّه حتمي إذا ما أعلنت الدولة أنها ذات سيادة. وهذه الإستراتيجية هي أمر شرعي بحكم القوانين والأعراف، وغيابها يمثل انتقاصًا من شرعية الدول والأنظمة التي لا تصيغ إستراتيجية للدفاع عن الوطن وسيادته. وغالبًا ما يحدث خلط بين مقهوم السياسة الدفاعية والإستراتيجية الدفاعية؛ وهو ما يحدث لغطًا والتباسًا.

 

الفرق بين السياسة الدفاعية والإستراتيجية الدفاعية:

 

يكمن الفارق بين السياسة الدفاعية والإستراتيجية الدفاعية، في المستوى والأهداف والتفاصيل، ويمكن توضيح ذلك باختصار على الشكل الآتي:

 

1- من حيث المستوى: السياسة الدفاعية تتعلق بالمستوى العام والتوجيهي، بينما الإستراتيجية الدفاعية تتعلق بالمستوى التفصيلي العملياتي والتكتيكي.

 

2- من حيث التركيز: السياسة الدفاعية تتعلق بالأهداف وتجيب عن سؤال “ماذا نريد تحقيقه؟”، بينما تركز الإستراتيجية الدفاعية على الخطط والإجراءات العملية والميدانية، وتجيب عن “سؤال كيف نحققه؟”.

 

3-  من حيث الصياغة والمرونة: السياسة الدفاعية تُصاغ على المستوى السياسي وتتعلق بالثوابت ولا تتمتع بالمرونة، بينما الإستراتيجية الدفاعية تُصاغ على مستوى العسكريين والخبراء الميدانيين، وهي تتطور وتتكيف مع التهديدات والمستجدات.

 

يمكن القول، باختصار، إنّ الإستراتيجية الدفاعية هي الذراع التنفيذي للسياسة الدفاعية، والتي تحوِّل الأهداف العامة إلى خطط عمل ملموسة وقابلة للتطبيق. وتاليًا؛ لا قيمة لأي كلام معسول عن السيادة وحماية الوطن، والذي يصاغ سياسيًا في إطار السياسة الدفاعية، من دون وجود استراتيجية عملية وتنفيذية لتحقيق هذا الكلام وتطبيقه على أرض الواقع، والخروج به من الإطار النظري إلى أرض الواقع.

 

أركان الإستراتيجية الدفاعية:

 

توجد أركان رئيسة للاستراتيجية الدفاعية لا بدّ وأن تستوفيها حتى تصبح إستراتيجية ناجحة وفعالة؛ وهي:

 

– تحليل التهديدات:عبر تحديد الأخطار العسكرية والأمنية، وتقييم قدرات الخصوم المحتملين ونقاط ضعفهم.

 

– تحديد الأهداف: عبر تحقيق الردع، وضمان القدرة على التصدي للهجمات، وحماية البنية التحتية الحيوية والحدود.

 

– توزيع الموارد: عبر تخصيص الميزانيات العسكرية، وتطوير الأسلحة والتقنيات، وبناء التحالفات العسكرية أو التعاون الأمني.

 

– التكتيكات والخطط التشغيلية: تشمل كيفية نشر القوات؛ مثل: الدفاع الثابت أو المناورة السريعة، ودمج الأفرع العسكرية والاستعداد لحالات الطوارئ.

 

الفارق بين استراتيجية الدول الكبرى والصغيرة:

 

هناك فارق بين الإستراتيجيات الدفاعية للدول الكبرى والدول الصغيرة، وهو يعتمد على عدة عوامل، مثل الموارد الاقتصادية والعسكرية والموقع الجيوسياسي ونوع التهديدات التي تواجهها كل دولة؛ ومن أهمها:

 

– من حيث الأهداف والرؤية الإستراتيجية: تهدف الدول الكبرى إلى حماية مصالحها على المستوى العالمي، والحفاظ على هيمنتها الإقليمية أو الدولية، ولديها استراتيجيات هجومية ودفاعية. وقد تتبنى سياسة الانتشار العسكري العالمي (القواعد العسكرية الأمريكية في العالم)، وتسعى للسيطرة على مناطق نفوذ استراتيجية (مضائق بحرية، طرق تجارية، موارد طبيعية).

 

– من حيث القدرات العسكرية: تمتلك الدول الكبرى جيوشًا نظامية كبيرة مع قوات برية وجوية وبحرية متطورة، وتستثمر في أسلحة متطورة (طائرات مقاتلة من الجيل الخامس، حاملات طائرات، أسلحة فرط صوتية)، ولديها ترسانات نووية أو برامج فضائية (الولايات المتحدة، روسيا، الصين)، كما تمتلك قدرات إنزال سريع للقوات في أي مكان في العالم. أما الدول الصغيرة؛ فهي تعتمد على قوات دفاعية محدودة، غالبًا ما تكون مصممة لصد هجمات إقليمية، فتركز على غير المتماثل والمعروف؛ مثل حرب العصابات أو المقاومة الشعبية.

 

– من حيث التحالفات والأمن الجماعي: الدول الكبرى تقود تحالفات عسكرية (الناتو بقيادة الولايات المتحدة)، وتفرض عقوبات اقتصادية أو عسكرية على خصومها، وتستخدم القوة الناعمة (دبلوماسية، مساعدات اقتصادية) لكسب الحلفاء؛ بينما تعتمد الدول الصغيرة على الحماية من قوى كبرى، وقد تنضم إلى تحالفات إقليمية.

 

– من حيث الإستراتيجيات غير التقليدية: تستخدم الدول الكبرى الحرب الإلكترونية والهجمات السيبرانية ضد أعدائها، وتمتلك قدرات تجسس متطورة (أقمار صناعية، طائرات من دون طيار تجسسية)، وتلجأ إلى الحروب بالوكالة. أما الدول الصغيرة تعتمد على الحرب غير المتماثلة؛ مثل: عمليات كوماندوز، هجمات صاروخية، وقد تضطر إلى اللجوء الى المقاومة الشعبية وحركات المقاومة عوضًا عن ضعف الجيوش، كما تستثمر في الأمن السيبراني، لكن بقدرات أقل من الدول الكبرى.

 

– من حيث الاقتصاد والإنفاق العسكري، الدول الكبرى لديها ميزانيات دفاعية ضخمة؛ مثل الولايات المتحدة تنفق أكثر من 800 مليار دولار سنويًا، وتمتلك صناعات عسكرية محلية متطورة، مثل روسيا في تصدير الأسلحة. أما الدول الصغيرة فلديها الميزانية محدودة، ما يضطرها إلى شراء أسلحة متنوعة بكميات قليلة، وقد تعتمد على المساعدات العسكرية من الحلفاء؛ مثل المساعدات الأمريكية لــــ”إسرائيل”.

 

أنواع الإستراتيجية الدفاعية بحسب النظرية الإستراتيجية:

 

توجد ثلاثة أنواع للإستراتيجية الدفاعية متفق عليها، في العلوم العسكرية، وهي باختصار:

 

أولاً- دفاع ساكن (Static Defense): يقوم على التحصينات الثابتة والرد الموضعي.

 

ثانيًا- دفاع متحرّك (Mobile Defense): يتضمن إعادة الانتشار والقدرة على المناورة لامتصاص الهجوم ثم الرد عليه.

 

ثالثًا- الدفاع النشط (Active Defense): يتضمن عمليات استباقية محدودة أو إجراءات تكتيكية تُنفّذ ضمن إطار الدفاع المشروع.

 

أما الدول الصغيرة؛ فعليها أن تشكّل إبداعات إستراتيجية، والجمع بين أنواع الإستراتيجيات لتعويض فجوة القوة والموارد. واللافت أن هناك دراسة منشورة في موقع وزارة الحرب الأمريكية أشارت لذلك، وحملت عنوان ” كيف يمكن للدول الصغيرة أن تدافع عن نفسها بطريقة أفضل في عالم متغير؟”. وقالت إن الدول الصغيرة عليها التفكير بطرائق جديدة وحلول عملية تمكّنها من الدفاع عن نفسها بسرعة وسهولة، ضد أعدائها الأقوياء بطريقة أفضل مما هو متاح لها اليوم. وقطعًا؛ تذهب الدراسة إلى مخاطبة الدول التي تريد الالتحاق بالفلك الأمريكي والتبعية لأميركا، بينما الدول الحرة قد تستفيد من هذا المضمون في تقوية استقلالها ودعمه، وحماية نفسها من الهيمنة.

 

نماذج للإستراتيجية الدفاعية في دول العالم:

 

من المهم الإشارة الى بعض النماذج للإستراتيجيات الدفاعية، في بعض الدول، لبيان ما تحدثنا عنه نظريًا:

 

1. سويسرا (الدفاع الشامل والمحايد)

 

سويسرا تشتهر بأنها دولة حياج؛ مع ذلك هي من أصعب الدول التي يمكن المساس بسيادتها واحتلالها. هي تعتمد على جيش صغير؛ لكنه مدرّب جيدًا، أو تعتمد بشكل رئيسي على ميليشيا شعبية منظمة، وترتكز على بنية تحتية محصنة من الأنفاق والملاجئ، وتدريب إلزامي للمواطنين ووجود قوات احتياط مدنية واسعة، والهدف هو ردع الغزو بإظهار أن أي محاولة للاحتلال ستكون لها كلفة باهظة وهزيمة محققة للعدو.

 

2. فنلندا (الدفاع المجتمعي الشامل)

 

تتمثل السمات الرئيسة للإستراتيجية الدفاعية في دمج المدني والعسكري في منظومة دفاع متكاملة، عبر خدمة عسكرية إلزامية، والاعتماد على جيش احتياطي كبير، وبناء قدرات سيبرانية واستخباراتية متقدمة، بهدف خلق بيئة ردعية يصعب اختراقها.

 

3. العدو “الإسرائيلي” (إستراتيجية الدفاع المتقدم)

 

يعتمد هذا العدو على الهجوم استباقي ودمج الردع بالقدرة على الحسم السريع، ويرتكز على توجيه ضربات استباقية لمنع الخصم من التمركز. كما يعتمد على درع متعدد الطبقات ضد الصواريخ (القبة الحديدية، مقلاع داوود، حيتس)، وتوظيف الإستخبارات والتفوق الجوي لضرب الخصم قبل أن يهدد الداخل، والهدف هو إبقاء المعارك خارج الحدود، ومنع تآكل الردع.

 

4. الولايات المتحدة: تعتمد على التفوق العسكري العالمي، التحالفات مثل الناتو، والردع النووي.

 

 

5. روسيا: تركز على الأسلحة النووية والحرب غير التقليدية (الهجينة)، وتعزيز الدفاع الإقليمي.

 

 

6. الصين: تطوير القوات البحرية والجوية، التوسع في بحر الصين الجنوبي، وتعزيز القدرات السيبرانية.

 

معايير الإستراتيجية الدفاعية الناجحة:

 

 

الإستراتيجية الناجحة يجب أن  يتوافر لها ثلاثة معايير أساسية:

 

1- القدرات العسكرية الكافية التي تمكّن الدولة من التصدي لأي هجوم يقع عليها، أو تنتقم لوقوع الهجوم عليها، ثم تستطيع ان تحرمه من أن يحقق أهدافه.

 

 

2-  المصداقية التي تجعل الدولة قادرة على إقناع العدو بأن لديها إرادة سياسية للتصدي لأي تهديد تتعرض له.

 

 

3- تمكّن الدولة من إيصال رسالة عملية للعدو بأنّ التكلفة التي سيتكبدها جراء هجومه عليها ستكون باهظة الثمن، إذا انتهك الخطوط الحمراء، ما يجعل العدو يفكر كثيرًا قبل إقدامه على مغامرة الحرب.

 

لا بد من القول إنّ أي استراتيجية دفاعية يجب أن تتمتع بالقوة والدراسة الوافية للتاريخ وللعدو وثقافته وإمكاناته واستراتيجيته، وتراعي في تشكيلها إستراتيجيات داخلية تتمثل بالردع وإفساد استراتيجية العدو، والحرب النفسية ضده، وتفكيك نظامه لإضعافه باللعب على تناقضاته. ولا بد أن تتمتع بالتنويع بين الإستراتيجيات والشمولية واستغلال الموارد ووسائل الحرب المتاحة والخبرات المتراكمة كلها.

 

 

المصدر: العهد