لماذا منتصف العمر هو الوقت المثالي للسيطرة على صحتك المستقبلية

أدّت حملات الصحة العامة بالفعل إلى تحسين الصحة واللياقة البدنية في منتصف العمر في العديد من البلدان المختلفة، وقد يكون هذا هو السبب في أننا نشهد اختلافا ملحوظا في حدة عقول الناس. وعلى الرغم من أنّ العدد الإجمالي للمصابين بالخرف آخذ في الارتفاع مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع...

تؤدي اختيارات نمط الحياة التي تتخذها في منتصف العمر دوراً مهمّاً بصورة خاصة في كيفية تقدّم دماغك في العمرفي العام المقبل، سأحتفل ببلوغي الأربعين من العمر. يبدو الأمر سخيفا بعض الشيء. بالكاد أشعر بأنني أكبر عمرا مما كنت عليه حين استمتعت بعيد ميلادي الـعشرين. فقد تعافيت بالكاد من تقلبات فترة المراهقة، والآن يبدو أنّ منتصف العمر أمامي مباشرة.

 

 

حاولت أن أنكر الأمر، لكن لا مفرّ من الحقيقة. من المقبول عموما أن منتصف العمر يبدأ في عمر الأربعين وينتهي في أوائل الستينات. وعلى الرغم من أن العلامات الأوضح قد تكون الجلد المتجعد حول عيني وفمي، إلّا أنّ أحدث الأبحاث تشير إلى أن دماغي ستعتريه أيضا سلسلة من التغييرات المهمة في هذه الفترة. وهي تشمل الانكماش المتسارع في مناطق معينة من الدماغ، وخسارة الاتصالات عبر الدماغ، وتلف العصبونات (الخلايا العصبية) Neuron بسبب الالتهاب Inflammation – ويبدو أن كلها تسهم في التدهور المعرفي Cognitive decline في وقت لاحق.

 

قد تعتقد أنّ هذا ينبغي أن يزيد من قلقي الوجودي . لكن هناك مجال للتفاؤل، لأنه اتضح أيضا أن منتصف العمر يوفّر فرصة حيوية للحفاظ على صحة أدمغتنا.

 

والنتيجة هي أنّه بإجراء تغييرات محددة في نمط الحياة في الأربعينات وما بعدها – وبعضها يتجاوز ما هو بديهي – يمكنك جني منافع فورية لذاكرتك وتركيزك. إضافة إلى ذلك، يمكنك بشيء من المثابرة تعزيز فرصك في صون عقلك حادا ونشطا في سن متقدمة، مع تخفيض خطر الإصابة بالخرف  تخفيضا كبيرا. ويقول سيباستيان دوم هانسن، من جامعة كوليدج كورك في أيرلندا: «لم يفت الأوان بعد لإحداث فرق».

 

لم يبدأ الباحثون بالاهتمام اهتماما هادفا بالانتقال من مرحلة البلوغ إلى المراحل اللاحقة في الحياة إلّا في الأعوام الماضية. يقول دوم هانسن، الذي شارك مؤخرا في تأليف دراسة تلخّص أحدث الأبحاث حول الدماغ في منتصف العمر: «لقد همّش المجتمع العلمي منتصف العمر إلى حد ما».

 

وكان الافتقار إلى الاهتمام ناجما جزئيا عن تحديات عملية: فإذا كنت تريد فهم ظاهرة مثل التدهور المعرفي، فمن الأسهل كثيرا اكتشاف الاختلافات بين الناس حين تكون الأعراض مترسّخة بالفعل. يقول عالم الأعصاب من جامعة هارفارد ماكسويل إليوت: «سوف ترى أوضح الإشارات حين تقيسها فيمن لديه 70 عاما من المخاطر التراكمية».

 

ومع ذلك، بحلول هذا العمر، قد تصير العديد من التغييرات غير قابلة للإصلاح، مما دفع باحثين مثل إليوت ودوم هانسن إلى إلقاء نظرة فاحصة على مراحل أبكر في الحياة. يقول دوم هانسن: «ما يجب أن تتوجه إلى دراسته هو فترة من الحياة تشهد الكثير من التغييرات المتسارعة، وتمثّل أيضا فرصة للتدخل. على نحو متزايد، بدأ هذا الاختصاص يعي أن هذه الفترة قد تكون منتصف العمر».

 

ما الذي يحدث في منتصف العمر؟

 

 

يدفعنا بحثهم إلى إعادة التفكير في افتراض رئيسي حول الشيخوخة Ageing. في الماضي، كان من الطبيعي أن ينظر إلى التدهور المرتبط بالعمر بوصفه عملية خطية. وفقا لهذا النموذج، تصل معظم قدراتنا المعرفية إلى ذروتها في العشرينات والثلاثينات من العمر، ثم تنخفض انخفاضا مطردا مع مرور الوقت، فيكون معدّل التغيّر في الخمسينات هو نفسه في العشرينات.

 

لكن حين تتبع العلماء أدمغة الناس مع مرور الوقت، وجدوا أن العديد من التغيّرات تحدث بصورة متقطعة، ويبدو أن منتصف العمر يمثّل نقطة تحوّل.

 

خذ ذاكرة الأحداث (الذاكرة العرضية)، وهي قدرتنا على تذكّر تفاصيل أحداث حياتنا الشخصية. تبدأ هذه الذاكرة بالتدهور بسرعة متزايدة في منتصف العمر. من الأمور التي تكتسي أهمية خاصة القدرة المعروفة بفصل الأنماط Pattern separation، والتي تمنع الذكريات المتماثلة من الاختلاط ببعضها بعضا. فعلى سبيل المثال، إذا أردت أن تتذكر المكان الذي ركنت فيه سيارتك، فيجب أن تكون قادرا على التمييز بين ذاكرة اليوم المتعلقة بالدخول بسيارتك إلى موقف السيارات وبين ذكرى الأمس. وبالنسبة إلى العديد من الأشخاص، تصير هذه المهمة أصعب مع دخولهم الخمسينات والستينات من عمرهم.

 

يمكن أن تعزى مشكلات الذاكرة هذه إلى تغيّرات في منطقة في الدماغ اسمها الحصين، والتي تميل بحسب دوم هانسن إلى الانكماش بسرعة أكبر في منتصف العمر. ومن المعروف أن هذه المنطقة تشارك في ترميز المعلومات الجديدة. وفقا لإحدى الفرضيات، يبدأ الدماغ خسارة قدرته على تكوين عصبونات (خلايا عصبية) جديدة في منتصف العمر، مما يصعّب بناء الشبكات العصبية المتميزة Distinct neural networks اللازمة لتمييز تفاصيل ذاكرة عن أخرى.

 

قد يعزى تشتت الذهن المرتبط بالعمر أيضا إلى تغيّرات بنيوية Structural ووظيفية Functional في اتصالات الدماغ. تشمل التغيرات البنيوية ترقق المادة البيضاء White matter في الدماغ، وهي محاوير Axons طويلة مغلفة بغمد Sheath عازل، تنقل الإشارات من منطقة إلى أخرى. يقول دوم هانسن: «يبدو أن هذه المادة تصل ذروتها في أوائل الأربعينات من عمرك، وبعد ذلك يتقلص حجمها بصورة متزايدة».

 

يتعلق الاتصال الوظيفي بالطرق التي ينظّم بها الدماغ المعالجة، أي تحديد المناطق التي ستعمل مع بعضها بعضا وفي أي وقت ستعمل. في مرحلة أبكر من مراحل حياة الرشد، تبدو المعالجة أكثر كما لو كانت تتم في وحدات نموذجية Modular: لدينا شبكات متمايزة جدا تعمل كل منها على وظائف محددة. وبالطريقة نفسها التي يمكن أن يؤدي بها تقسيم المسؤوليات الواضح إلى تعزيز أداء فريق رياضي، يعتقد أن هذا التقسيم في الدماغ يؤدي إلى تحسين الكفاءة ِEfficiency. مرة أخرى، في منتصف العمر، نبدأ برؤية حدوث تغيّرات مهمة. في هذا الوقت، يبدأ التنظيم المحكم للدماغ بالارتخاء، ويقلّ الفصل بين الشبكات المختلفة. يقول دوم هانسن إن حجم هذا التغيير يرتبط بقوة بقدراتك المعرفية الشاملة وذاكرة الأحداث اليومية.

 

مثل أشكال الشيخوخة الأخرى، يخوض كلّ منا مسارا فرديا قد يختلف اختلافا ملحوظا عن مسار شخص آخر. ربما يكون بعض هذا الاختلاف متأصلا في حمضنا النووي DNA. فعلى سبيل المثال، الأشخاص الذين لديهم نسخة معينة من جين صميم البروتين الشحمي إيه (اختصارا: الجين APOE) أكثر عرضة للإصابة بداء ألزهايمر (تنطق آلزايمر) Alzheimer’s disease. ويظهر البحث الذي أجرته تيل أيك وزملاؤها من جامعة جنوب كاليفورنيا أن تأثيرات هذا الجين تكون خفيّة حتى منتصف العمر، وبعد ذلك تتضح العواقب المترتبة على ذاكرة الأحداث (الذاكرة العرضية) واضحة وضوحا متزايدا.

 

ومع ذلك، فإن جيناتنا لا تحدّد مصائرنا، إذ تظهر الأدلة الناشئة أن مسار الدماغ في منتصف العمر يرتبط ارتباطا وثيقا بصحتنا العامة – والتي يمكن تعديلها بعوامل نمط الحياة.

 

معدّل الشيخوخة

 

 

ومن هذه القياسات الفردية، تمكن الباحثون من حساب درجة واحدة تمثّل تدهور أعضاء المشاركين، سموها درجة معدل الشيخوخة Pace of Aging (اختصارا: المعدل POA). وتختلف هذه الدرجة اختلافا كبيرا من شخص لآخر، وتعكس عموما العلامات الخارجية للشيخوخة. ويبدو أن درجة POA للفرد تتوافق مع أحكام شخصية أخرى تتعلق بمظهره الجسمي، على سبيل المثال: كلما كانت الدرجة أعلى، بدا الشخص أكبر بالنسبة إلى عمره.

 

هل يمكن أن تعكس أيضا نتائج الدرجة POA سرعة التدهور العصبي لدى الأشخاص؟ لمعرفة ذلك، فحص فريق إليوت مسوحا دماغية واختبارات أداء معرفي. فكشفت النتائج عن وجود صلة وثيقة بين الجسم والدماغ، بصورة خاصة في منتصف العمر. فعلى سبيل المثال، بعمر 45 عاما تقريبا، أظهر المشاركون الذين كانوا ذوي درجات POA عالية تدهورا أسرع في الحصين وخسارة أكبر للمادة البيضاء. كما أظهروا أيضا انخفاضا أكبر في الذكاء العام. يقول إليوت: «إن الأشخاص الذين يتقدمون في السن تقدما أسرع، يفقدون في المتوسط بضع نقاط في معدل الذكاء IQ. كانوا يخسرون بالفعل شيئا من القدرة المعرفية ما قد تمهّد الطريق لأشياء مثل الخرف في سن الشيخوخة».

 

لا تزال الآليات الدقيقة قيد الاستقصاء، لكن هناك الكثير من الطرق المحتملة التي يمكن بها لهذه الواسمات البيولوجية الجسمية أن تؤثّر في صحة الدماغ. فعلى سبيل المثال، ترفع البدانة، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع الكوليسترول، منفردة أو مجتمعة احتمال انسداد الأوعية الدموية في الدماغ أو تلفها، مما يسبب تسرّب السوائل إلى الأنسجة المحيطة، حيث يمكن أن تلحق الضرر بالعصبونات (الخلايا العصبية) ومادتها البيضاء – وهو ضرر لا يمكن إصلاحه يبدأ في منتصف العمر.

 

وهناك أيضا الالتهاب Inflammation. وهو أحد أسلحة الجسم الحيوية ضد العدوى، شرط أن يستخدم استخداما مرشدا. ولسوء الحظ، قد يحيد جهاز المناعة في بعض الأحيان عن مساره، فيضخّ جزيئات التهابية حين لا يكون هناك تهديد مباشر. يعيث ذلك بمرور الوقت في الدماغ خرابا، فيقتل خلاياه ويكسّر روابطها، ويعتقد أنه يسهم في تراكم لويحات البروتين في داء ألزهايمر. يقول دوم هانسن: «هناك أدلة على أن بعض هذه العمليات الالتهابية تتسارع في فترة منتصف العمر».

 

والمحصلة جلية: إذا كنت أنوي البدء بتنمية العادات الصحية، فمن الأفضل أن أبدأ الآن، قبل أن يبدأ الضرر بالتراكم. يقول إليوت: «بناء على كلّ ما نعرفه عن الدماغ، يبدو أنه من الصعب جدّاً استعادة شيء خسرته. لكن يمكنك وقاية الأشياء من الضياع في المقام الأول». وقد يكون منتصف العمر وقتا مهمّاً بصورة خاصة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، بغض النظر عن خيارات نمط الحياة التي اتخذتها سابقا.

 

العادات الصحيّة

 

 

كان هذا هو الاستنتاج الذي توصّلت إليه لجنة لانسيت المعنية بالخرف: الانتشار والتدخلات والرعاية، والتي درست تأثير عوامل الخطر المختلفة في المدى العمري Lifespan. ووجدت بعض العوامل التي تكتسي أهمية خاصة في منتصف العمر. فعلى سبيل المثال، صحيح أنّه ينصح في كل مراحلنا العمرية بتدبير وزننا، فقد خلصت اللجنة إلى أن هذه السلوكيات ذات تأثير كبير بصورة خاصة في خطر إصابتنا بالخرف في وقت لاحق بمجرد أن نصير في الأربعينات من العمر. بمعنى آخر، منتصف العمر هو الوقت المناسب للتقليل من تناول البرغر إن أردنا الحفاظ على عقولنا في فترات الحياة اللاحقة.

 

ربما علينا أيضا فحص آذاننا. فالمشاركة في محادثة تمرين عقلي كبير، وقد يثبّطنا فقدان السمع عن التعامل مع الآخرين، مما سيحرمنا هذا التمرين المعرفي. تقول جيل ليفينغستون، أستاذة الطب النفسي لكبار السن في جامعة يونيفيرسيتي كوليدج لندن، وهي من قاد لجنة لانسيت: «إن الدردشة ببساطة أسهل طريقة لتحفيز عقلك، وهي تجعله أكثر مرونة».

 

وأخيرا وليس آخِراً، يجب أن نولي اهتماما بعدد خطواتنا اليومية. من المعروف الآن أن التمارين الرياضية تحسّن الدورة الدموية وتخفّض الالتهاب في الجسم والدماغ. كما أنها تؤدي إلى إطلاق عامل النمو المشتق من الدماغ، وهو بروتين يساعد على صون صحة عصبوناتنا (الخلايا العصبية) وارتباطاتها. ولذلك، يبدو أن المواظبة على مستوى مرض من النشاط البدني في منتصف العمر والشيخوخة يبطئ الضرر العصبي الذي يتراكم عادة عاما بعد عام.

 

أدّت حملات الصحة العامة بالفعل إلى تحسين الصحة واللياقة البدنية في منتصف العمر في العديد من البلدان المختلفة، وقد يكون هذا هو السبب في أننا نشهد اختلافا ملحوظا في حدة عقول الناس. وعلى الرغم من أنّ العدد الإجمالي للمصابين بالخرف آخذ في الارتفاع مع ارتفاع متوسط العمر المتوقع لسكان العالم، فإن نسبة الأشخاص الذين يصابون بهذه الحالة في كل فئة عمرية آخذة في التقلص ــ وهو بصيص أمل كثيرا ما يكون مبهما في الخطاب الشعبي.

 

 

 

المصدر: شبكة النبأ