د.اكرم شمص
في مشهد مأساوي غير مسبوق، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية أن حصيلة الإبادة الجماعية التي ينفذها العدو الصهيوني بحق سكان قطاع غزة، بدعم أمريكي مباشر، بلغت حتى 29 نيسان/أبريل 2025 ما يزيد عن 52 ألف شهيد و117 ألف جريح، في عدوان ممنهج يُنفذ على الهواء مباشرة ويستهدف المدنيين العزل في منازلهم وخيام نزوحهم، وسط صمت دولي مطبق وعجز إنساني فاضح؛ أرقام تعكس بوضوح أن ما يجري في غزة ليس مجرد حرب، بل خطة متكاملة لتفريغ الأرض من سكانها وإعادة هندستها ديموغرافيًا بما يخدم مشاريع استعمارية كـ”صفقة غزة”، في تحدٍ صارخ لكل القوانين الدولية وقيم العدالة الإنسانية.
منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، يتعرض قطاع غزة لعدوان غير مسبوق من قبل العدو الصهيوني، وُصف من قبل منظمة العفو الدولية بـ”الإبادة الجماعية على الهواء مباشرة”. وتتوالى المجازر بحق المدنيين، في ظل صمت دولي مطبق، ومواقف غربية منحازة، وانكشاف تام لعجز القانون الدولي عن حماية الضحايا أو ردع الجاني. في هذا السياق، تبرز أهمية تفكيك دور الولايات المتحدة في رعاية العدوان، لا كموقف طارئ، بل كامتداد تاريخي لمسار طويل من التواطؤ السياسي والاستراتيجي بدأ مع وعد بلفور ولم ينته مع ما يسمى “صفقة غزة الجديدة”.
أولاًـ الإبادة في غزة ؛ القانون الدولي تحت الاختبار
تُعرّف اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948) الإبادة بأنها كل فعل يُرتكب بقصد تدمير جماعة قومية أو عرقية أو دينية بشكلٍ كلي أو جزئي. تشمل هذه الأفعال: القتل، الإيذاء الجسدي أو النفسي، فرض ظروف معيشية قاتلة، ومنع الولادات داخل الجماعة. ما يحصل في غزة منذ أكتوبر/تشرين الثاني 2023 ينطبق على هذه التعريفات بدقة؛ من استهداف الأطفال والنساء، إلى تجويع السكان عمدًا، إلى قصف البنية التحتية الصحية والتعليمية.
اتفاقيات جنيف، لا سيّما الرابعة، تحظر صراحة استهداف المدنيين، إلا أن العدو الصهيوني يتذرع بحق الدفاع عن النفس لارتكاب مجازر ممنهجة. المادة 33 منها تنص على أنه “لا يجوز معاقبة شخص محمي على جرم لم يرتكبه شخصيًا”، ومع ذلك يُقتل الآلاف بذريعة ضرب فصائل المقاومة.
الأمم المتحدة، عبر مفوض حقوق الإنسان، وصفت الوضع بـ”الكارثة الإنسانية”. في المقابل، تستمر الولايات المتحدة في استخدام حق النقض (الفيتو) لمنع إدانة العدوان، وهو ما يُعد مشاركة فعلية في الجريمة، وفقًا للمادة الثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية التي تُجرّم التواطؤ.
ثانيًاـ من وعد بلفور إلى دعم مشروع الإبادة
بدأ الانحياز الأمريكي المبكر مع تأييد وعد بلفور عام 1917. ثم تجلى بشكلٍ أوضح عام 1948 عندما كانت واشنطن أول من اعترف بالكيان الغاصب متجاهلةً مأساة التهجير القسري للفلسطينيين. ومنذ ذلك الحين، تكررت مشاريع تصفية القضية الفلسطينية بأدوات أمريكية، بدءًا من خطة مكفي لتوطين اللاجئين، إلى مبادرات جونستون ودالاس وسكرانتون، ثم روجرز وريغان، وصولًا إلى “صفقة القرن”.
في عام 2020، أعلن دونالد ترامب صفقة القرن التي تضمنت الاعتراف بمدينة القدس المحتلة عاصمة موحدة للعدو الصهيوني، وضم أجزاء من الضفة الغربية، وإنشاء كيان فلسطيني بلا سيادة، منزوعة منه أدوات الحياة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
ثالثًاـ الكيان الغاصب في الاستراتيجية الأمريكية
تعتبر واشنطن الكيان الغاصب شريكًا جيوسياسيًا في المنطقة، يخدم أهدافها الاستراتيجية في مواجهة إيران، وضبط إيقاع التوازن الإقليمي. ويُنظر إلى هذا الكيان كمخفر متقدم للمصالح الأمريكية، أو كما يسميه بعض الساسة الأمريكيين: “حاملة طائرات لا تغرق في الشرق الأوسط”.
بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، تعزز هذا الدور الأمني، إذ أصبح العدو الصهيوني جزءًا من الحرب العالمية على الإرهاب. وبات التنسيق الاستخباراتي والعسكري أكثر تماسكًا، ما جعل أي انتقاد دولي للعدو يُفهم ضمنيًا كهجوم على الشراكة الأمنية الأمريكية نفسها.
رابعاًـ ثوابت الدعم الأمريكي للعدو الغاصب
تتبع السياسة الأمريكية ثوابت محددة لضمان دعم الكيان الغاصب في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. ويُنظر إلى هذا الكيان في الولايات المتحدة كشريك في القيم والديمقراطية والمصالح والأهداف في الشرق الأوسط. ورغم كون الكيان الغاصب مستعمرة استيطانية، يعتبر الديمقراطية الوحيدة بادعائهم في منطقة مليئة بالدول التي توصف بالضعف والتخلف والأنظمة الدكتاتورية المعادية للولايات المتحدة وللعدو الصهيوني. ويعَد الكيان الغاصب حائط صد استراتيجي ويوصف بحاملة الطائرات الأمريكية في المنطقة، ويتمتع بعلاقات استخبارية واسعة مع الولايات المتحدة حول الظواهر والتطورات في المنطقة.
خامساًـ من ترامب إلى ما بعد بايدن؛ استمرارية المشروع التصفوي
كانت رئاسة ترامب الأولى تتويجًا لهذا الانحياز غير المشروط؛ نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، الاعتراف بضم الجولان، شرعنة المستوطنات.
أما إدارة بايدن، فعلى الرغم من اللهجة الأقل عدوانية، ولكنها واصلت السياسات نفسها من حيث الجوهر؛ دعم مالي وعسكري مطلق، وحماية دبلوماسية في المحافل الدولية، وتغاضٍ كامل عن الجرائم اليومية في الضفة وغزة.
وعاد ترامب إلى الحكم بنسخة معدلة من صفقة القرن، طرحت في فبراير/شباط 2025 تحت عنوان “ريفييرا غزة”، كانت محاولة لإعادة هندسة الواقع السياسي والسكاني عبر التهجير الناعم، والاستثمار الاقتصادي كغطاء للاستيطان. هذه الخطة واجهت رفضًا عربيًا واسعًا، خاصة من مصر والأردن والسعودية.
خاتمة؛ غزة اختبار للعدالة الدولية
غزة اليوم ليست فقط ميدانًا للقتل، بل منصة اختبار لفكرة القانون الدولي ذاتها. إن استمرار الإبادة الجماعية بصمت دولي، وبدعم أمريكي، يُظهر فشل المنظومة الأممية في حماية المدنيين.
فمنذ وعد بلفور حتى صفقة غزة، أثبتت الولايات المتحدة أنها ليست وسيطًا محايدًا بل طرفًا أصيلاً في المشروع الاستعماري. أما الكيان الصهيوني، فليس سوى أداة لتنفيذ هذا المشروع، باستخدام أدوات حديثة؛ من الدبلوماسية إلى التطبيع، ومن القصف إلى الاستثمارات.
الرد على هذا المشروع لا يمكن أن يكون بالأدوات التقليدية. بل يتطلب مقاومة متعددة الأوجه؛ سياسية وقانونية وشعبية. المطلوب اليوم ليس فقط كشف المخطط، بل بناء بديل تحرري يستند إلى وحدة الموقف الفلسطيني، ودعم إقليمي فاعل، وضغط قانوني دولي يعيد الاعتبار لعدالة القضية، قبل أن تُمحى حدودها بسكوت العالم.