قال نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان “العلامة الشيخ علي الخطيب” في الكلمة التي ألقاها في المؤتمر الدولي الذي عُقد بمناسبة مرور 100 عام على إعادة تأسيس الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة أن حوزة قم حصّنت التشيع عبر التاريخ وصمدت أمام التيارات الإلحادية، وكانت نواة الثورة الإسلامية في إيران.
وقال العلامة الشيخ علي الخطيب خلال الكلمة التي ألقاها في هذا المؤتمر الذي أقيم يوم الأربعاء الماضي 7 مايو الجاري إن قم مدينة مقدسة ارتبطت بآل البيت (ع) منذ القرن الثاني الهجري، وازدهرت بعلماء كبار مثل الشيخ الصدوق والبرقي.
وأشار الى أن الثورة الإسلامية الايرانية تحققت بنبوءة إلهية بقيادة الإمام الخميني (ره) الذي أسس حكومة إسلامية مستوحاة من فقه أهل البيت (ع)، مؤكداً أن التحديات المعاصرة تتطلب تحديث الخطاب الديني عبر تبسيط الفقه، ومواكبة التقنية، واستخدام الإحصاء لدراسة التحولات الاجتماعية.
وصرّح أن الاقتصاد الإسلامي ضرورة لمواجهة الحصار حيث يجب تعزيز دور المال كأداة تنمية بدلاً من احتكاره في النظام الرأسمالي، موضحاً أن الحوزة العلمية في قم المقدسة اليوم جامعة عالمية تضم طلابًا من 90 دولة، مما يتطلب تعزيز التفاعل مع العالم بلغة عصرية.
وقال العلامة الشيخ علي الخطيب إن التبليغ الديني يجب أن يكون ذكيًا عبر منصات بديلة لغوغل ويوتيوب، وتدريب دعاة قادرين على مواجهة الإعلام المضاد، مصرحاً أن لبنان شريك استراتيجي للحوزة عبر مؤسسات مثل المجلس الإسلامي الشيعي، ويحتاج دعمًا في مواجهة العدوان الصهيوني.
وأكد نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان أن حوزة قم تمهد لظهور الإمام المهدي (عج) عبر؛ نشر الإسلام الأصيل، وتعزيز الوحدة الإسلامية، في مواجهة التحديات العالمية.
فيما يلي نص كلمة العلامة الشيخ علي الخطيب:
“بسم الله الرحمن الرحيم
ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى، سر الحضور المشرف لمدينة قم المقدسة في كلام أئمة آل البيت عليهم السلام، ففي الحديث الشريف عن الصادق عليه السلام : ستخلو كوفة من المؤمنين، ويأزر عنها العلم كما تأزر الحية في جحرها، ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم المقدسة، وتصير معدنا للعلم والفضل، حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قم وأهله قائمين مقام الحجة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها، ولم يبق في الأرض حجة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فيتم حجة الله على الخلق، حتى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم، ثم يظهر القائم (عليه السلام) .
ويلقي هذا الحديث الشريف على عاتق أهل العلم والفضل، عبء تطبيق معيار العالمية في نشر الإسلام بأساليب وطرق عصرية، تتناسب مع الخصوصيات الثقافية لكل أمة أو شعب في العالم.
وتشكل الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم تلك الإنطلاقة الراسخة لمشروع العالمية الإسلامية الجديدة ببركات الثورة الخمينية التي تنبأ بها الإمام الكاظم عليه السلام عندما قال: رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلهم الرياح العواصف، ولا يملون من الحرب، ولا يجبنون، وعلى الله يتوكلون، والعاقبة للمتقين.
وفي كلام الإمام الصادق عليه السلام ما يطمئننا إلى أن هذه الإشراقة وهذه الشعلة ستستمر برعاية الله سبحانه وتأييد صاحب العصر إلى أن يأذن الله له بظهوره المبارك عجل الله تعالى فرجه الشريف: قال عليه السلام لأحد اصحابه واسمه عفان البصري:
أتدري لم سمي قم؟ قلت: الله ورسوله وأنت أعلم، قال: إنما سمي قم لأن أهله يجتمعون مع قائم آل محمد صلوات الله عليه، ويقومون معه ويستقيمون عليه وينصرونه.
1_ عظمة التاريخ
كانت مدينة قم المقدسة بلدة عامرة بالعلم والفقه منذ القرن الثاني الهجري /الثامن الميلادي، وذلك إلى أواخر القرن الرابع ، حيث اكتظت بعباقرة الحديث والفقه والرجال، ومنها انتشر العلم إلى سائر الأمصار. فالمحدثون القميون عرفوا في سماء الحديث والفقه ، وكفاك أن إبراهيم بن هاشم ، وإبنه علي بن إبراهيم، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي وأحمد بن محمد بن موسى الأشعري، ومحمد بن أحمد بن عمران الأشعري، وغيرهم من جهابذة الحديث والفقه خريجو مدرسة قم، وقد تركوا مصنفات ثمينة بقيت مصونة عن حوادث الزمان.
وتجمع المصادر على اعتبار قدوم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ووفاتها (201 هـ / 817 م) من أهم المحطات التاريخية في المدينة . فلطالما كانت مقامات الأئمة والصالحين من أحفاد البيت النبوي الشريف مراكزا للعلم والنور والروحانية الخاصة، تعززت في حالة قم بالإرتباط العاطفي والروحي بين المجتمع المحلي وآل البيت عليهم السلام.
وقد برزت ملامح النشاط العلمي الشيعي في قم منذ القرن الرابع الهجري، وبرز فيها محدثون كبار: كالشيخ الصدوق (المتوفي 381ه) ، وتحولت قم تدريجيا إلى مركز لنسخ وحفظ روايات آل البيت عليهم السلام، قبل أن ينتقل زخم الحوزة الشيعية إلى النجف الأشرف وكربلاء .
وفي الحقبة الصفوية (1501–1736 م) ، أعاد الصفويون إحياء المذهب الشيعي الاثني عشري كمذهب رسمي للدولة، واهتموا بمدينة قم. فجددوا بناء مرقد السيدة المعصومة وزُين بالقباب والمآذن. كما أصبحت المدينة وجهة للحجاج والعلماء، وازداد العمران والنشاط الديني فيها.
ويبقى الحدث الأبرز هو تأسيس آية الله الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري (1274_ 1355 ه)، للحوزة الشريفة في قم سنة 1340 ه بعد أن جمع زبدة علوم النجف الأشرف وآراك وما استفاده من أستاذيه السيد محمد الفشاركي (المتوفي 1315ه) والمحقق الخراساني قبل أن يستقل في التدريس…وشاءت الاقدار أن تكون هذه الحوزة العلمية سداً منيعاً أمام التيارات العلمانية والإلحادية، في زمن تغول الغرب الإستعماري والمنافسات الشرسة على موارد العالم ومستقبل دوله وشعوبه وأبنائه.
وبعد ذلك التأسيس المبارك وعلى الرغم من المحن ومحاولات التشويه للإسلام والتشيع، ما عاد بالإمكان فهم التجربة الإسلامية وتطور علوم الإسلام في القرن العشرين بعيدا عن قم وعلمائها ونتاجاتها في الحقول المختلفة.
يقول السيد القائد الخامنئي (دام ظله): إن الشهداء العظماء والعديدين من الحوزات العلمية الشيعية، الذين يُعتبر بعضهم كالشّهيد الأول والشّهيد الثاني رضوان الله عليهما من علماء الصف الأول في الحوزات، يشهدون شهادة عظيمة على جهاد رجال الدين في عصر التقية والعسر، الذين كتبوا رسائلهم العلمية والعملية بدم الشهادة وحبر الدماء.
إن خدمات المرحوم آية الله الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي والمرحوم آية الله البروجردي خلال فترة إدارتهما للحوزة العلمية في قم جديرة بالاهتمام البالغ. وقد كان الإمام الخميني (قدس سره) يذكر دائمًا المرحوم الحائري وبساطة عيشه في أوج سلطانه وزعامته بكل خير، وكان يثني عليه من حيث العلم والإخلاص والزهد والتواضع والتقوى وحسن المعاشرة.
إن تأسيس حوزة علمية دينية في مدينة قم خلال المئة عام الأخيرة وبإدارة هؤلاء العظماء وأنصارهم المخلصين، كانت له آثار لا يمكن أن تمحوها محاولات الظالمين في هذا العالم.
ولم يكن تشكيل الحكومة الإسلامية في إيران الثورة؛ إلا تتويجا للإنجازات القيمة لأفكار عظماء الدين بقيادة رجال الدين الثوريين الشيعة وتوجيه الحركة الثورية للشعب، مما أدى إلى تشكيل النظام الإسلامي القائم على الفقه الذي فتح آفاقًا جديدة أمام المجتمع العالمي والمتشوقين للحرية والخلاص.
لقد كانت الحوزة العلمية في قم وما تزال ذخرا للإسلام المحمدي الأصيل ونبعا لأهم تحول ثوري في تاريخ الأمة والعالم المعاصر ، وإننا إذ نحتفل بمرور قرن على تأسيسها نتطلع إلى عصر تقود فيه الحوزة تجربة الحضارة والتمدن الإسلامي والإنساني من جديد تمهيدا للظهور المبارك لصاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
2_ الفرصة والتحديات
إن المتأمل بعظمة هذا التاريخ ونجاة مدرسة أهل البيت عليهم السلام في عصور الظلم الطويلة ، يلاحظ الألطاف الإلهية التي سخرت هذه النفوس العالية والعقول المتوقدة برعاية صاحب العصر أرواحنا له الفداء.. ولكن هل انتهى التحدي؟ بالتأكيد نحن اليوم أمام تحديات بحجم الأمة والعالم ولطالما كان إزهاق الباطل أصعب من إحقاق الحق كما تبين لنا تجربة أمير المؤمنين عليه السلام في سنوات حكمه القصيرة .
لا يوجد شك بأن الحوزة قد تفاعلت مع الإنجاز العظيم بإقامة الحكومة الإسلامية في إيران الإسلام، وبفضل عبقرية القائدين الكبيرين السيد الخميني (قدس سره) والسيد الخامنئي (دام ظله) منحت الحوزة حرية البحث العلمي على طريقة “الفقه الجواهري” كما عبر الإمام الخميني في وصيته، ولكنه أوصى أيضا بزيادة الأبحاث وفتح النوافذ الجديدة في هذه المدرسة المباركة …
وبالفعل نهضت الحوزة وجامعة المدرسين فيها مدركة لأهمية الفسحة التي أتاحتها الثورة الإسلامية الأعظم في القرن العشرين، وتغيرت واجبات ومهام جماعة المدرسين، حيث تحولت من مناضلة ضد النظام الجائر إلی مشاركة في تأسیس وتثبیت الحكومة الإسلامية وفي مجالات شتى أهمها التصدي لتحديات الدولة العادلة ومسؤولياتها.
3_ اقتراحات:
كمراقب محب وحريص أظن أن الإخوة القيمين على عمل الحوزة المباركة يدركون حجم التحديات التي تواجه الجمهورية الإسلامية المباركة من الداخل والخارج، كما يعرفون بلا شك أن كل مؤمرات العالم لن تفلح في إجهاض هذه التجربة المباركة إذا كان المجتمع الإيراني داعما لها وملتفاً حولها. ومن جهة أخرى لا يمكن إنكار التحدي الذي يشكله التقدم التقني في مجال الضلال والإضلال ومن هنا فإنني أتقدم بهذه الإقتراحات كبضاعة مزجاة فأنا طالب من طلاب هذه الحوزة فما أقوله منكم وإليكم:
أولاً: لابد من تطوير أساليب التبليغ بحيث تصبح منصات التواصل ساحة صراع مع المحتوى الهابط السائد فيها فقد قال السيد شرف الدين قدس سره مرة : “لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال”، وعلى اساس هذه القاعدة كان تأسيسه للكلية الجعفرية في صور سنة 1936. فليكن لنا محركات البحث البديلة عن غوغل كما فعلت الصين، وليكن لنا التطبيقات التي تتحدى التيك توك والإنستاغرام، ولنعمل على تدريب وتهيئة دعاة العصر من كافة شرائح المجتمع ، نشرح بلغة ذكية أهمية وفائدة الإلتزام بالأحكام والتعاليم والمفاهيم كما تقدمها مدرسة الإسلام المحمدي الأصيل، فما عادت المبادرات الفردية كافية لتلبية الحاجة في عصر الأجهزة المزودة بالذكاء الإصطناعي وجيوش المضلين سواء من الغرب أو من المتغربين في الشرق.
ثانياً: لنعتمد أساليب البحث العلمي الإحصائي الحديثة في دراسة التحولات الإجتماعية مع الإسلام أو بعيداً عنه، ولنضع نتيجة معطيات هذه الأبحاث مؤشرات الأداء التي تحدد الشرائح المستهدفة في المجتمع التي ينهشها سرطان التغريب والثقافة الإستهلاكية التي تزيد من تأثير الحصار الإقتصادي على الحياة اليومية للمواطن الإيراني.
ثالثاً: لنبدع في التوفيق بين الاصالة والإنفتاح في كتابة الفقه بلغة القانون وتبسيط المطالب وتقديمها للحياة مرجعا لحكم القضاة وسلوك الأفراد.
رابعا: إيلاء البحث العلمي في الإقتصاد أهميته التي يستحقها في عصر استخدام الإقتصاد كسلاح لحصار الجمهورية الإسلامية وتحريض الشعوب للعودة إلى بيت الطاعة الغربي والأميركي. وتفعيل طرق الإنفاق الإسلامية التي تحول المال إلى دورة دموية للإقتصاد الوطني أو نهر جار يسقي كل شرائح المجتمع ويحمي الطبقة الوسطى ويكافح الفقر، في مقابل احتكاره من قبل النظام الربوي والتحكم بالناس من خلال افتعال ندرة المال وتحويله إلى دولة بين الأغنياء في النظام الرأسمالي المعاصر.
خامسا: إن حوزة قم جامعة عالمية تحتوي اليوم على طلبة من تسعين دولة في العالم ، فكيف نستفيد من عقول العالم للتفاعل مع العالم؟ هذا سؤال كبير فقد رأينا كيف يحكم الأميركي والأوروبي الأدمغة ويصفي المتمردة منها ليتمكن من أن يبقى مسيطرا على الإنسانية بعقول النوابغ منها… وهو عنصري لا يحترم الآخر فكيف والإسلام عالمي بطبيعته يحترم الإنسان أينما كان ويعزز فطرته السليمة ويدافع عنها وقد أريد له اليوم أن يظهر بأبشع صور التكفير والإرهاب ويغترب حتى عن نفسه.
وأخيراً: لديكم في لبنان مؤسسة ولدت على يد فقيه من فقهاء قم وهو الإمام السيد موسى الصدر (أعاده الله وأخويه) ، وأتشرف اليوم بتمثيلها في مؤتمركم هذا، ومن البداية كانت هذه المؤسسة جسرا بين جبل عامل وشيعة لبنان من جهة والثورة الإسلامية الإيرانية وهي بعد في بداياتها، ولا نزال بكل تواضع على العهد نتصدى لأكبر حملة همجية يتعرض لها لبنان وشيعة لبنان ، وأنتهز هذه الفرصة الثمينة لأجدد العهد بين المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان والحوزة المباركة في قم طالبا المزيد من التعاون والعناية بلبنان الجريح الذي فقد نخبة من مجاهديه في العدوان الأخير وعلى رأسهم سماحة سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله رضوان الله عليه.
وأطمئنكم رغم كل الجراحات أننا مع الثنائي الوطني في لبنان حزب الله وحركة أمل لا نزال جبهة متماسكة متراصة مؤمنة بحتمية النصر ولو بعد حين.
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (العنكبوت، 69).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.