هل دخل الاقتصاد الأميركي نفق “اللايقين”؟

بعد مرور أكثر من شهر على صدور القرارات الأميركية الجمركية، بدأت معالم تداعياتها تظهر بشكل أوضح وأعمق على صعيد الاقتصاد العالمي عمومًا والاقتصاد الأميركي خصوصًا، حيث لم يسلم هذا الأخير من التداعيات القاسية التي أسقطها عليه رجل البيت الأبيض ومعه من يمثل من الإدارة الأميركية، ظنًّا بأن هذه القرارات ستقود الاقتصاد الأميركي نحو الخلاص، لكن على ما يبدو، أتت النتائج معاكسة ووضعت مستقبل الاقتصاد الأميركي تحت مظلّة "اللايقين".

يرى الباحث والخبير الاقتصادي الدكتور أمين صالح، أنّ نتائج أي قرارات تتعلق بالاقتصاد سواءٌ لناحية الإنتاج أو لناحية حماية الإنتاج الداخلي، تحتاج بعض الوقت لإدراكها ومعرفتها، ورغم أنه من الصعب حاليًّا معرفة تأثير الرسوم الجمركية على اتّجاهات الاقتصادات العالمية، فلا شك أن العالم دخل مرحلة جديدة بقرار الرئيس ترامب فرض رسوم جمركية شملت العالم بأسره، وإن كان بنسبٍ متفاوتة بين الدول، تراوحت ما بين 10% و145% نتيجة الرسوم الجمركية المتبادلة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. 

للشركات الأميركية نصيبٌ من النتائج الاقتصادية للقرارات الجمركية، وتأثير هذه القرارات على القيمة السوقية لها، يتوقف -وفقًا للباحث الاقتصادي- على حجم التدفقات المالية النقدية الواردة إلى أميركا وعلى حجم الاستهلاك فيها، بما معناه هل سينكفئ السوق الأميركي لاستهلاك المنتجات الأميركية المصنعة محليًا، لأن أسعار المنتجات المستوردة سترتفع خاصةً وأن السوق الأميركي مستغرق بالسلع الصينية المصدرة إلى أميركا؟ وهل ستستطيع الشركات الأميركية الحلول مكانها؟

 

من السابق لأوانه معرفة اتّجاهات السوق، لكن من المؤكد أن الشركات الأميركية ستتأثر أسواقها أيضًا مثلما حصل في كندا وأستراليا والمكسيك والصين التي فرضت بدورها رسومًا جمركية عالية مقابل الرسوم الجمركية الأميركية.

 

على صعيد الميزان التجاري، يشير الدكتور صالح إلى أن أميركا لديها عجز في ميزانها التجاري بينها وبين الصين بحوالي 370 مليار دولار، وبينها وبين أوروبا بحوالي 600 مليار دولار، وبالتالي فإن خطوة ترامب التي تهدف إلى زيادة واردات الحكومة الأميركية من الرسوم الجمركية الجديدة، والحد من استيراد السلع، ستعمل على تخفيض العجز التجاري بين كلّ من هذه الدول وأميركا، لكن بالطبع يبقى هذا رهن العوامل المشار إليها سابقًا.

 

الخبير الاقتصادي يضيف في سياق متصل، أنه إن استطاعت أميركا أن تبقي على هذه الرسوم الجمركية، فمن شأنها زيادة الواردات إلى الخزينة الأميركية، لكن سيؤدي ذلك إلى تنامي الدين العام بعد أن وصل إلى أكثر من 130% من الناتج المحلي الأميركي.

 

من المؤكد أنه في المرحلة الأولى من التداعيات، سيحدث تضخم في الأسعار في أميركا، وهي بالطبع تخشى هذا الأمر، كما أن معدلات البطالة سترتفع بسبب توقف سلاسل التوريد إليها، وهذا يرتبط أيضًا بقدرة الاقتصاد الأميركي على خلق توظيفات جديدة، بمعنى هل ستتدفق الأموال للاستثمارات الجديدة في أميركا ومن بينها استثمارات الدول العربية، وهذا الأمر وفقًا للدكتور صالح يحتاج لفترة زمنية تتراوح ما بين النصف عام وعامٍ كامل لمعرفة إلى أين ستتّجه حركة الرأس المال العالمي، أي هل ستنجح أميركا في جذب رؤوس الأموال أم لا؟

 

الدكتور صالح لفت إلى أن ثمة حالة من القلق والتململ تسود في المجتمع الأميركي، وحركات قريبة من “مفهوم اليسار” بدأت منذ فترة تطالب الإدارة الأميركية بوقف تدخّلها في العالم، وعدم الانفاق على تمويل الحروب، وهذا ما يفسر محاولة أطراف في أميركا وقف تدخلاتها العسكرية في الدول، وبرز ذلك من خلال العجز الحاصل في الموازنة العامة الأميركية، والعجز في الميزان التجاري وتنامي الدين العام، لذا كانت هذه الحركات تنادي بشعار “أميركا أولًا” وإنفاق أموال الميزانية العسكرية الأميركية على شبكة الحماية الاجتماعية في أميركا.

 

 

وفي الإطار، رأى الباحث الاقتصادي أننا اليوم أمام نموذج جديد من الاقتصاد العالمي، وهو نموذج العودة بالاقتصاد إلى عصر الحمايات الجمركية الذي كان سائدًا قبل العولمة، ونحن اليوم أمام عصر انتهاء العولمة وخاصة العولمة الاقتصادية التي أطلقتها أميركا (انشاء منظمة التجارة العالمية وترك التجارة الحرة)، حيث هدفت بذلك إلى فتح الحدود الجمركية أمام الصناعات الأميركية وصناعات الدول الرأسمالية في أسواق العالم الثالث، ومحاربة التصنيع في هذه الدول وكسب المزيد من الأسواق الرأسمالية العالمية، ونقل عبء الإنتاج وخاصة آثاره السلبية اليها.

 

 

هذه السياسات أدّت في نهاية الأمر إلى تراجع اقتصاديات الدول الرأسمالية في أميركا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، وما نشهده اليوم من قرارات تنضوي تحت عنوان “العودة عن العولمة”، ومن الممكن أن نشهد تطوّرات في حروب الرسوم الجمركية التي قد تصل لحد فرض قيود على التجارة العالمية، أو قيام حروب إلكترونية أو منع توريد السلع الإنتاجية الاستثمارية، أو إلى قرارات بفرض حظر على توريد الذكاء الاصطناعي والمنتجات التقنية العالية إلى الدول النامية، وهذا يعني أننا أمام بدايات عصر جديد في الاقتصاد العالمي.

 

إنّ العودة إلى عصر الحمايات الجمركية تسبّبت تاريخيًا باندلاع الحروب العالمية والإقليمية، كما في الحرب العالمية الأولى والثانية، وحاليًا ما يجري في فلسطين المحتلة، رغم الخلفيات الدينية والقومية والسياسية الكامنة وراء هذا الاحتلال والحرب القائمة، لكنّها في الأساس تهدف للسيطرة على الاقتصاد والثروات وعلى كلّ الموارد الطبيعية.

 

 

المصدر: العهد