عبیر شمص
تُمثل مفردة «حقوق الإنسان» اليوم سلاحًا مزدوجًا في الخطاب السياسي العالمي، تُرفع حينًا لشرعنة الحروب، وتُسقط حينًا آخر عندما تتعارض مع مصالح القوى المهيمنة. فحيث تتموضع الولايات المتحدة والدول الغربية، التي تسوّق نفسها على أنها حامية هذه الحقوق، نشهدهم اليوم بوضوح في دعمهم اللوجستي والإعلامي للوحشية التي تنتهك أدنى حقوق الأطفال والنساء العزّل في غزة وفلسطين ولبنان، فضلاً عن حقوق الإنسان، بنفس القوة الغربية في التجييش الإعلامي والسياسي ضد الدول الإسلامية التي تُدينها بدعوى انتهاكها، لقضايا المرأة والحريات، وقد سعت الجمهورية الإسلامية على تقديم النموذج الإسلامي لحقوق الإنسان ولذلك عقدت مؤتمر «حقوق الإنسان في المنهج الشرقي» في شهر نيسان / أبريل هذا العام في حسينية السيدة الزهراء(س) التابعة لرابطة الثقافة والعلاقات الإسلامية الإيرانية في العاصمة الإيرانية طهران والتي صرح رئيسها حجة الإسلام محمد مهدي إيمانى بور أن هدف المؤتمر نقد الوضع القائم لحقوق الإنسان في العالم وتقديم نظام بديل عملي وفعّال لحقوق الإنسان. لذا وفي محاولة لتقديم قراءة نقدية بشواهد معاصرة في حقوق الإنسان بين النموذج الإيراني الإسلامي والغربي حاورت صحيفة الوفاق الخبيرة في علم الاجتماع السياسي الدكتورة ليلى صالح، وفيما يلي نص الحوار:
تنطلق الدكتورة صالح من رؤية سماحة آية الله العظمى سماحة السيد علي الخامنئي من أن الإسلام لا يحتاج إلى الغرب ليُعلّمه حقوق الإنسان، فمن المبادئ الإسلامية التي تُطرح دوماً في تعريف الإسلام مبدأ «تكريم الإنسان» كما مجمل الرؤية الإسلامية الإيرانية، فهو يقدم قراءة تنبع من منظومة قيمية أصيلة، تطبق فيها الجمهورية الحدود الإسلامية وفق الرؤية القرآنية « وتلك حدود الله»، الله يتهدد كل من يتعد حدود الله، هذه إشارة الى ارتباط تكريم الله للبشر بالتزام حقوقهم التي عبر عنها القرآن الكريم بالحدود بأكثر من موقع، وهذه الحقوق عبارة عن منظومة دساتير ترجمت بقوانين تلحظ ظروف البيئة المعاصرة، يقول أمير المؤمنين(ع) في هذا السياق: «رحم الله إمرِئاً عرف حده فوقف عنده»، ومن هنا يرتبط هذا التكريم للبشر بالعدل الاجتماعي بصورة مباشرة.
أمّا الممارسة الواقعية، للسياسة الأميركية الغربية فنجدها في تغاضيها عن جرائم الحرب، ففي غزة منذ أكتوبر /تشرين الأول 2023، أكثر من 50,000 شهيد، معظمهم من النساء والأطفال، لم يُقابلوا بأي إدانة جدية من المؤسسات الغربية التي تزعم الدفاع عن حقوق الإنسان مثال على ذلك دعمت أميركا نظام صدام البائد خلال حربه على إيران، رغم استخدامه الأسلحة الكيماوية، بل أخرجته حينها من «قائمة الإرهاب» لتمكينه من ممارسة جرائمه ضد الجمهورية الإسلامية، وعادت واستخدمت القوات الأميركية أسلحة محرمة، وأقامت سجونًا سرية كأبو غريب، إذ جرى تعذيب المعتقلين بأساليب مهينة ومخالفة لكل المواثيق الدولية، هذه السياسة الجائرة والمتسلطة من حكومة ظالمة أو دول تحت مسمى المصالح والحروب لا يمكن لها أن تُنظِّر لحقوق الإنسان وهي تنتهك هذه الحقوق بكل جرأة ووحشية أمام الرأي العالمي، وتُجيش الإعلام بسرديات مفبركة لا تخدم إلاّ مصالحهم المهيمنة.
الإعلام الرأسمالي في انتهاكه لحقوق الإنسان
ترى الدكتورة صالح بأنه في الوقت الذي تسعى فيه إيران إلى إعلام مسؤول يُعزز الوعي السياسي والقيم الثقافية، نجد الإعلام الغربي يُستخدم كأداة للهيمنة الثقافية وتوجيه الرأي العام، وقد تجلّى ذلك بوضوح في الإنحياز الإعلامي المفضوح للعدوان على غزة، إذ تُبرر المجازر بوصفها «دفاعًا عن النفس». فلا توجد في كل أوروبا حتى صحيفة واحدة يمكن القول إنها ليست ملكًا للرأسماليين، أي إنها حرية الرأسمالي كي يقول ما يريد”، بل كل الصحف تساند العدوان الذي تقوم به قوى الاستكبار على المنطقة، لذا نجد هذه الصحف باتت تمر على الإبادة الجماعية والجريمة المنظمة الموصوفة التي ترتكب لأكثر من عامين وكأنها أخبار يومية اعتيادية، دون أن تُبرز حجم الانتهاكات التي يرتكبها في حق الإنسان والإنسانية. ففي الوقت الذي تُقدَّم فيه حرية التعبير في الغرب كواحدة من أركان الديمقراطية، الواقع يشير إلى أن معظم وسائل الإعلام الكبرى مملوكة لكارتلات رأسمالية، تُحدد التوجهات، وتُقصي الأصوات المناهضة، وتُمارس التزييف.
المرأة بين خطاب التحرير الغربي والإيراني
تشير الدكتورة صالح بأن سماحة السيد القائد يؤكد بأن إحدى أهم النقاط الخلافية التي يستثمرها الخطاب الغربي هي قضايا المرأة، حيث تواجه إيران فيها. غير أن الواقع يشير إلى صورة مختلفة: فالمرأة الإيرانية تتقلد مناصب عليا، وتشارك في البرلمان، وتحضر في الجامعات والتخصصات التقنية، وتُساهم في النهضة العلمية. فقد استطاعت النساء في إيران الإسلامية أن يجدن شخصيتهن الحقيقية إلى حدٍ كبير، ويشاركن في الميادين المختلفة، ويعبّرن عن عظمة روح المرأة المسلمة، وفق سماحته. في المقابل، تتكشف يوميًا فضائح الاستغلال الجنسي في الغرب، من الجامعات الأميركية إلى الجيش، ومن عالم الأعمال إلى السينما. تُستغل المرأة بصفتها الجسدية تحت شعارات «التحرر»، بينما تتآكل مكانتها الاجتماعية، وتتفكك الأسرة. وتشير الإحصاءات إلى أن واحدة من كل ثلاث نساء في الاتحاد الأوروبي تتعرض للعنف الجسدي أو الجنسي، مما يدحض الأسطورة الغربية حول «تمكين المرأة”.
إذاً الرؤية الإسلامية للمرأة المقتدرة هي مقابل تمكين المرأة، فالشخصية القدوة للمرأة التي تمثلت بالنساء المقتدرات حكمن في التاريخ بالعدل الإلهي « السيدة بلقيس» قدمت نموذجاً للمرأة الحكيمة مع اقتدارها وسلطتها في اختيار طريق الحق الذي هو الإسلام بعد أن اهتدت إليه، ولم يقدم الإسلام المرأة بصور هزيلة، تابعة، لا تدرك الحق وأهله كما يصورها الغرب في منطقتنا، بالتالي تحتاج إلى مشاريع لتمكينها.
هذه الشكلانية الغربية التي تحصر الحقوق في الأبعاد الفردية أو الحريات الجنسية، لتشمل المسؤولية الأخلاقية، لا يمكن لها حفظ النسيج المجتمعي، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الحقيقية للإنسان ككائن مكرم. فالضغوط الأميركية لم تقتصر على العقوبات الاقتصادية، بل طالت المجال الثقافي والفكري، عبر دعم منصات إعلامية معارضة، ومنظمات غير حكومية، وشبكات تجسس ناعمة، الهدف بات واضحاً ليس «نشر الديمقراطية» كما يُزعم، بل زرع الانقسام، والتشكيك بالهوية الإسلامية، والدفع باتجاه «علمانية زائفة» تخدم مصالح واشنطن.
الذي حفظ الإسلام كمشروع حضاري محمدي أصيل، في الطرف النسائي هو الشخصية المقتدرة بالشجاعة وقوة الحق في السيدة فاطمة الزهراء(س) في جهاد التبيين في مواجهة الشبهات، والجهاد الإعلامي للسيدة زينب(س)،هذه الثقافة النسوية المجاهدة هي التي ساندت ودعمت الصمود الأسطوري في مجتمع المقاومة في كل المحاور والجبهات، وستعكس موقع الحرية الحقيقية للمرأة في خياراتها المحقة لتكون شريك فاعل ومؤثر في نهضة أسرتها ومجتمعها ودولتها.
الهيمنة عبر البوابة الثقافية
تعتبر الدكتورة صالح بأن حرية الأقلام وحرية التعبير عن الرأي من الحقوق الأکيدة للشعب، هذا مما لا شك فيه إطلاقاً وهو من المبادئ المصرح بها في الدستور، هذا ما يؤكده سماحة السيد القائد في كل خطاباته، وهو يثني إلى جانب هذا الحق على قيم وحقائق أخرى يجب أن لا تسحق بحرية الصحافة وحرية الأقلام. فالميزة الکبرى هي أن يستطيع المرء الحفاظ على الحرية، و يدرك في الوقت نفسه الحقيقة، و تکون له صحافة حرة من دون أن تعتريها تلك الآفات للتحرك والتقدم والتغيير. ذلك لأن تقاطع مشاريع الهيمنة الناعمة التي تستخدمها الولايات المتحدة في العالم الأوروبي، والشرقي، والعالم العربي والإسلامي، في ما يُعرف بسياسات «الهندسة الاجتماعية» من الخارج، تدخل الصحافة فيها برأس حربة في هذه الحرب الناعمة المركبة.
فالصحافة بالنسبة لنظام الجمهورية الإسلامية ليست قضية شکلية وتشريفية. إذن، زيادتها وتنوعها وجودتها من المهام الرئيسية في هذا النظام. الصحافة ظاهرة ضرورية ولازمة ولا مندوحة منها لمجتمع إيران وأي مجتمع يروم أن يعيش حياةً طيبة کريمة. يؤكد القائد هنا على ثلاثة واجبات رئيسية للصحافة: واجب النقد و الإشراف، وواجب الإعلام الصادق الشفاف، وواجب طرح الآراء و تبادلها في المجتمع. وإذا فقد المجتمع الصحافة الحرة الراشدة والأقلام الحرة الفاهمة فسيفقد الکثير من الأمور الأخرى. وجود الصحافة الحرة أحد مؤثرات رُشد الشعب وهو في الوقت نفسه من أسباب هذا الرشد. بمعنى أن رشد الشعب و حريته تفرز الصحافة الحرة الراشدة وفي مرحلة ثانية تساعد الصحافة الحرة الراشدة بدورها على زيادة رشد الشعب.
تختم الدكتورة صالح حديثها بالقول إن مقارنة جادة بين ما يُطرح في الغرب عن حقوق الإنسان، وما يُمارسه فعليًا، تُظهر فجوة هائلة بين الخطاب والواقع. أما النموذج الإسلامي الإيراني، رغم كل التحديات، فإنه يقدم رؤية متماسكة تستند إلى كرامة الإنسان، وتُحقق توازنًا بين الحقوق والواجبات، وبين الحريات والمسؤوليات. لقد آن الأوان لأن تُكفّ اليد الغربية عن توظيف هذا الشعار سلاحًا ضد الشعوب، وأن يُفتح باب النقاش العالمي حول تعريف بديل وأكثر صدقًا لحقوق الإنسان، ينبع من تجارب الشعوب وقيمها، لا من هيمنة مصالح الكبار.
ويقول سماحة السيد القائد في هذا المضمار «إذا کان ثمة قلق بشأن حقوق الإنسان – ونحن بدورنا قلقون على حقوق الإنسان في البلدان الأوروبية – ليوفد ممثلون من الجانبين ويراقبوا وينظروا.. ليأتوا هم إلى هنا ونبعث نحن أيضاً ممثلين إلى هناك ليروا کيف هو واقع حقوق الإنسان في سجونهم ومحاکمهم وفي تصرفاتهم الحكومية والاجتماعية والمدنية، وإلى أي مدى تراعي حقوق الإنسان هناك؟ هذا اقتراح منطقي وجيد جداً، ومن المناسب جداً أن يتقبله الأوربيون. هذه المشاريع سوف تتقدم بالعلاقات بين نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية والغرب إلى الأمام، وسوف ترفع حالات القلق لدى الجانبين.»