المرضى النفسيين في صفوف الاحتلال: عودة إلى القتال في غزة؟

تتفاقم في كيان الاحتلال أزمة صامتة بدأت تخرج إلى العلن تدريجياً، وهي أزمة الجنود العائدين من الحرب الأخيرة على غزة، الذين باتوا يعانون من اضطرابات نفسية حادة، وسط تقارير عن احتمالية إعادة استدعاء بعضهم للقتال من جديد رغم حالتهم النفسية المتدهورة.

 

صحف إسرائيلية كـ”هآرتس” و”معاريف” نشرت مؤخراً تحقيقات مقلقة تتحدث عن مئات من جنود الاحتلال الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، نوبات قلق حاد، اكتئاب، وحتى محاولات انتحار في بعض الحالات، نتيجة المواجهات الشرسة التي خاضوها داخل المناطق السكنية في قطاع غزة، وما ارتكبوه من دمار وقتل واستهداف للأطفال والنساء والمدنيين.

 

في تقرير أعدّه الصحفي الاسرائيلي “عاموس هرئيل” في صحيفة “هآرتس”، كشف أن الجيش الإسرائيلي يواجه مأزقاً غير مسبوق يتمثل في نقص الكوادر القتالية المدربة وجاهزية بعض الوحدات، ما دفعه للنظر في خيار “إعادة استدعاء بعض الجنود الذين سبق أن تم تسريحهم أو منحهم إعفاءات مؤقتة بسبب ظروفهم النفسية”، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في الأوساط العسكرية والإعلامية على حد سواء.

 

من جهة، هناك حاجة ميدانية ملحّة لتعزيز القوات على حدود غزة والاستعداد لأي تصعيد محتمل، خاصة مع فشل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، ومن جهة أخرى، فإن أعداداً متزايدة من جنود الاحتلال غير قادرين نفسياً على خوض تجربة قتالية جديدة، ما يضع المؤسسة العسكرية بين مطرقة الحاجة وسندان الانهيار.

 

وبحسب بيانات نشرها قسم الصحة النفسية في وزارة الحرب الإسرائيلية، فقد تضاعف عدد الجنود الذين طلبوا العلاج النفسي منذ أكتوبر عام 2023 وحتى نهاية عام 2024، وبلغت النسبة الأعلى في صفوف وحدات النخبة البرية التي خاضت معارك في مخيمات جباليا وخان يونس ورفح. ورغم محاولات الجيش توفير الدعم النفسي، فإن التقارير تفيد بوجود قصور كبير في التعامل مع هذه الحالات، لا سيما في ظل الضغوط السياسية والإعلامية للتصعيد مجدداً.

 

سياسياً، تثير هذه القضية أسئلة صعبة داخل المجتمع الإسرائيلي. فقد بدأ نواب في الكنيست، من أطياف مختلفة، بمهاجمة أداء وزارة الحرب والجيش في ما يخص “التعامل غير الإنساني مع الجنود الذين أصبحوا ضحايا الحرب”، مطالبين بلجنة خاصة لمتابعة القضية. بعض الأصوات، مثل نحمان شاي، حذر من “انهيار الثقة بين الجنود وجهازهم القيادي، إذا ما تم تجاهل معاناتهم النفسية لصالح أجندات عسكرية”.

 

أما على الصعيد الاجتماعي، فهناك بوادر احتجاج صامتة بدأت تتشكّل، عبر مجموعات أهالي الجنود الذين نشروا شهادات مؤثرة على منصات التواصل الاجتماعي، تصف ما يعانيه أبناؤهم من كوابيس مستمرة، نوبات بكاء وعزلة، وتهميش رسمي بعد عودتهم من الجبهة.

 

ورغم أن هذه الأزمة لا تحظى بعد بالتغطية الدولية الكافية، إلا أن باحثين في شؤون الأمن الإسرائيلي، مثل “إيال زيسر” و”يوفال ديسكين”، بدأوا بدق ناقوس الخطر، محذّرين من أن “الجيش الذي لا يعالج جراحه النفسية سيخسر جاهزيته في أي معركة قادمة”، خصوصاً إذا استمر في سياسة الدفع القسري للعناصر المصابة نفسياً نحو الخطوط الأمامية.

 

المستقبل يبدو قاتماً ما لم يتم اتخاذ خطوات سريعة وفعالة لمعالجة هذه الأزمة. إعادة استدعاء جنود مدمّرين نفسياً قد يؤدي إلى نتائج كارثية في الميدان، ويزيد من فقدان السيطرة والانضباط العسكري، فضلاً عن تداعيات أخلاقية وإنسانية كبيرة. في المقابل، فإن التراجع عن الاستدعاء من شأنه أن يُربك الحسابات العسكرية للقيادة، ويدفع نحو خيارات سياسية بديلة، منها خفض وتيرة التصعيد أو التفاوض على هدنة أطول أمداً.

 

في المحصلة، فإن هذه الأزمة تتجاوز حدود الصحة النفسية لتلامس عمق البنية القتالية لجيش الاحتلال، وتطرح تساؤلات عن كلفة الحرب، ليس فقط على من يقف في مواجهتها، بل حتى على من يخوضها ويعود منها منهكاً، نفسياً وجسدياً.

 

المصدر: الخنادق