التعاون على المسار السريع
ومن أبرز الأمثلة، خط الساحل الشرقي للسكة الحديدية، والذي يبلغ طوله 665 كيلومتراً، ويجري العمل على بنائه على قدمٍ وساق. وفي إشارة إلى الأهمية التي يوليها الرئيس الصيني لهذا المشروع الرائد، أوفد مبعوثاً خاصاً لحضور حفل إطلاقه في عام 2017. وخلال لقائه بملك ماليزيا السلطان إبراهيم بن السلطان إسكندر في بكين في سبتمبر/ أيلول الماضي من العام 2024م ، دعا شي مجدداً إلى بذل جهود متضافرة لضمان نجاحه.
وسيعمل خط السكك الحديدية، بمجرد اكتماله، على ربط الساحل الشرقي الأقل تطوراً في ماليزيا بمحور القوة الاقتصادية على الساحل الغربي، مما يعزز الربط ويدفع النمو المتوازن. ومن المحتمل أيضاً ربطه بشبكتي السكك الحديدية بين الصين ولاوس، وبين الصين وتايلاند، وجميعها جزء من ممر التجارة البري-البحري الدولي الجديد، وهو مسار تجاري دولي حيوي.
وعلاوة على مشروع السكك الحديدية، فإن التعاون بين الصين وماليزيا يشهد توسعاً على مختلف الأصعدة. وما تزال الصين أكبر شريك تجاري لماليزيا منذ 16 عاماً على التوالي، إذ وصل حجم التبادل إلى مستوى قياسي عند 212.04 مليار دولار أمريكي في عام 2024. في السنوات الأخيرة، ازدادت شعبية الفواكه الاستوائية الماليزية، بشكلٍ كبير بين المستهلكين الصينيين.
وعلى مستوى أوسع، تقدر الصين تقديراً عالياً الدور المحوري لماليزيا في التعاون الإقليمي بوصفها عضواً مؤسساً في الآسيان ومحركاً رئيسياً للتعاون في شرق آسيا. وجدد الرئيس الصيني دعم بلاده لرئاسة ماليزيا للآسيان في 2025 والتزامها بمركزية الآسيان واستقلالها الإستراتيجي.
استنادًا إلى ما تقدّم، يتّضح أنّ ماليزيا تسعى إلى تعزيز علاقاتها مع الصين لأسباب اقتصادية واستراتيجية، وخصوصًا في عدد من المجالات الحيوية مثل الاقتصاد الرقمي والطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، وتولي ماليزيا أهمية قصوى لهذه القطاعات لما تمثله من رافعة اقتصادية مستقبلية سيكون لها انعكاساتها الإيجابية على مستقبل البلاد.
وتبادل الصين ماليزيا التوجهات نفسها والاهتمامات وهناك العديد من المشاريع التي يجري العمل عليها حالياً بين البلدين، ومنها على سبيل المثال مشروع منطقة الصناعات الصينية-الماليزية كوانتان، الأمر الذي يجعل العلاقات بين البلدين تبدو أقرب وأكثر تعاونًا.
خشية غربية من تغيير في ميزان القوى الإقليمي
هذا التقارب دفع الغرب إلى القلق من تحول النفوذ وإعادة تشكيل التحالفات إذ يُعتبر تقارب ماليزيا مع الصين مؤشرًا على تغيير في ميزان القوى الإقليمي؛ فمع تزايد التفاعل والتكامل بين البلدين، يخشى الغرب أن يؤدي ذلك إلى تقليص النفوذ التقليدي للولايات المتحدة وحلفائها في جنوب شرق آسيا. يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لإعادة ترتيب التحالفات الإقليمية، إذ قد تتجه بعض الدول إلى الاستفادة من النموذج الصيني في التنمية الاقتصادية والسياسية، مما يقلص من حجز الغرب على القرارات الإستراتيجية في المنطقة.
وقد سلطت صحيفة South China Morning Post الضوء على مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها، بسبب هذا التقارب واحتمالية انضمام ماليزيا إلى مجموعة «بريكس».
وكتبت الصحيفة أن مبادرات رئيس الوزراء الماليزي «أنور إبراهيم» وزيارته موسكو مؤخراً أثارت مخاوف الغرب، من مساعي ماليزيا لتوسيع وتنويع علاقاتها التجارية مع روسيا والصين، ومواجهة الضغوط الأمريكية.
ولفتت إلى أن زيارته جاءت في وقت تحاول فيه ماليزيا المناورة، وسط تصاعد المنافسة العالمية وتزايد حالة عدم اليقين التجاري.
وأشارت إلى أن روسيا عبّرت عن استعدادها لتعزيز الشراكة مع ماليزيا، وكانت من أوائل الدول التي دعمت طلبها للإنضمام إلى مجموعة «بريكس».
ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نتائج لقائه مع رئيس الوزراء الماليزي بأنها إيجابية وبنّاءة، معرباً عن استعداد روسيا لتعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات في المرحلة المقبلة.
وعلى الصعيد الصيني، أكد «أنور إبراهيم» أثناء لقائه الرئيس الصيني الشهر الماضي دعم بلاده لمواقف الصين في الملفات التجارية، إذ وجّه الزعيمان انتقادات غير مباشرة للسياسات التجارية الأمريكية التي وصفاها بالهدّامة، محذرين من تداعياتها على الاقتصاد العالمي.
وكانت ماليزيا قد حصلت العام الماضي على صفة «شريك» في مجموعة «بريكس» وتسعى إلى نيل العضوية الكاملة في المجموعة التي فاقت حصتها في الناتج الدولي حصة الغرب.
التداعيات الاقتصادية والاستراتيجية
بجانب الأبعاد السياسية والعسكرية، يحمل التقارب الماليزي الصيني تأثيرات اقتصادية عميقة؛ إذ قد يؤدي إلى تحوّل تدريجي في مسارات التمويل التجاري من النظام القائم على الدولار الأمريكي إلى بدائل تمويلية تقدمها قنوات مثل مجموعة بريكس. هذا التحول يشكّل تهديداً للنفوذ الاقتصادي الغربي، ويفتح الباب أمام استخدام آليات تمويل جديدة قد تضعف الصلاحيات الاقتصادية للغرب في رسم سياسات التجارة العالمية.
ردود الفعل الغربية المحتملة
سيرى الغرب – وعلى رأسه الولايات المتحدة – في تقارب ماليزيا والصين تحدياً مباشرًا لنفوذه في المنطقة، مما سيدفعه إلى تعزيز تحالفاته مع دول مثل الفلبين وسنغافورة وإندونيسيا. الهدف هو تكوين شبكة متماسكة تضمن حفظ استقرار بحر الصين الجنوبي وضمان حرية الملاحة.
وعلى صعيد التحرك الدبلوماسي والاقتصادي من المحتمل أن يقوم الغرب بممارسة ضغوط دبلوماسية وسياسية على ماليزيا، سواء عبر تقديم حوافز اقتصادية أو عبر التنسيق مع شركائه الإقليميين.
قد تشمل هذه الإجراءات إعادة جدولة الاتفاقيات التجارية مع ماليزيا، أو حتى اتخاذ مواقف نقدية علنية حيال أي تحركات تشجع من خلالها الصين على توسيع نفوذها.
على صعيدٍ أخر، قد يؤدي تقارب ماليزيا مع الصين إلى زيادة التعاون بين الغرب والدول الساحلية في بحر الصين الجنوبي، مع توسيع نطاق التمارين المشتركة والعروض العسكرية للردع ضد أي محاولات لفرض السيطرة على الممرات البحرية الحيوية.
بحر الصين الجنوبي محور أساسي
إن تقارب ماليزيا مع الصين يُمثل تحولاً في معادلة القوى في جنوب شرق آسيا، وله تداعيات تمتد إلى النظام الدولي بأكمله. يخشى الغرب من هذا التحول ليس فقط بسبب احتمال انسحاب الدول التقليدية من المنظومة الغربية، بل أيضاً لما قد ينجم عن ذلك من تغييرات في الأمن البحري – إذ يُنظر إلى بحر الصين الجنوبي كمحور أساسي للتجارة والحركة العسكرية العالمية.