إعادة تعريف دور إيران في العلاقات العالمية بالاعتماد على الدبلوماسية الاقتصادية

خاص الوفاق: في السنوات الأخيرة ومع تشدید العقوبات ضد إيران، فتح صانعو السياسة الاقتصادية في البلاد مسارًا جديدًا للتفاعل العالمي من خلال نهج مبتكر ودبلوماسية اقتصادية نشطة. وفي حين لا تزال العقوبات الأمريكية تضغط على الاقتصاد الإيراني، تظهر الأدلة والوثائق أن الحكومة الحالية، باعتمادها رؤية إيجابية تجاه الدبلوماسية الاقتصادية، تمكنت ليس فقط من فتح سبل للبقاء، بل وحتى رسم مسارات لاستعادة وتوسيع العلاقات الاقتصادية مع العالم. وقد أدى نجاح هذه الدبلوماسية، خاصة في إطار الإتفاقيات الإقليمية وإقبال الدول الأخرى على التعاون مع إيران، إلى إخفاق العقوبات الأمريكية.

إنجازات الدبلوماسية الاقتصادية الجديدة

 

أحد المحاور الرئيسية للاستراتيجية الجديدة للحكومة الرابعة عشرة هو التحول في النهج من “المقاومة فحسب” إلى “التفاعل البنّاء” في مجال الاقتصاد الدولي.

 

ومن خلال الإدراك الدقيق للإمكانيات الاقتصادية وطرق الإلتفاف على العقوبات، اتجهت الحكومة نحو تعزيز العلاقات مع الدول المجاورة وتكتلات اقتصادية مثل “إيكو” و”شانغهاي” و”بريكس”.

 

وتشمل هذه الإنجازات زيادة الصادرات غير النفطية، وتعزيز البنى التحتية التجارية، وعقود الاستثمار المشتركة، واتباع سياسة المقايضة. ففي العام الماضي، وصلت قيمة الصادرات غير النفطية الإيرانية إلى بعض دول المنطقة إلى أعلى مستوى لها منذ عقد من الزمن.

 

كما أن التعاون مع لاعبين مهمين مثل الصين وروسيا في إطار عقود طويلة الأجل، خاصة في مجال الطاقة والبنى التحتية، يبشر بمستقبل مختلف قائم على شراكات مربحة للطرفين.

 

نظرة الحكومة الإيجابية للدبلوماسية الاقتصادية

 

في تحليل سياسات الحكومة الرابعة عشرة، يظهر تحول جوهري واضح، حيث تبث الحكومة إشارات واضحة تُفضّل الدبلوماسية الاقتصادية على خلق التوترات السياسية. وهذه النظرة الإيجابية لا تظهر فقط في الوثائق الاستراتيجية العليا، بل أيضًا في أداء السلك الدبلوماسي ووزارة الصناعة.

 

التركيز على تصدير سلع جديدة وقائمة على المعرفة، تفعيل الملحقيات التجارية في السفارات، وإقرار سياسات لتسهيل دخول رؤوس الأموال الأجنبية، كلها تمثل مراجعة جذرية حوّلت المقاومة الاقتصادية التقليدية إلى تفاعل اقتصادي بنّاء.

 

هنا تكمن النقطة التي يعترف بها حتى العديد من الاقتصاديين الناقدين بضرورة هذا التحول. وكما يقول فرهاد مهري، أستاذ الاقتصاد الدولي: كانت الخطوة الأولى والأكثر حيوية للخروج من أزمة العقوبات هي إعادة تعريف دور الحكومة من لاعب سياسي إلى لاعب اقتصادي في مجال السياسة الخارجية، ويمكن رؤية نتائج هذا التغيير في النظرة بشكل ملموس في إحصائيات الصادرات وحجم الاستثمار الأجنبي.

 

توسيع التعاون الاقتصادي على الساحة العالمية

 

يشكل تزايد المفاوضات والزيارات الاقتصادية الرسمية وتوقيع مذكرات التفاهم مع دول آسيوية وأفريقية وحتى أوروبية، دليلاً واضحاً على وجود رغبة مشتركة وحاجة ماسة للتعاون.

 

وعلى مدى العامين الماضيين، سعت الحكومة من خلال توقيع إتفاقيات متعددة الأطراف في مجالات الطاقة والنقل والتبادلات المالية، لتحويل إيران إلى عنصر محرك في الساحة الدولية.

 

وقد ساهمت عقد اجتماعات مشتركة مع أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” في طهران واللقاءات الاقتصادية رفيعة المستوى، في خلق أجواء من التفاؤل لتعزيز التجارة الإقليمية.

 

ويؤكد الخبراء أن إبراز إيران لقوتها في المحافل الدولية ليس له فقط قيمة رمزية، بل يأتي بآثار عملية ملموسة في قرارات الشركاء الاقتصاديين.

 

التعاون الاقتصادي رغم استمرار العقوبات

 

ربما كان التحدي الأكبر هو استمرارية التعاون الاقتصادي رغم العقوبات المتزايدة؛ لكن تجربة السنوات الأخيرة أثبتت أن تحقيق هذا الهدف ممكن عبر الإبداع والمنطق الاقتصادي.

 

وتتمثل أهم الاستراتيجيات في: استخدام العملات الرقمية، والمقايضة السلعية، والإتفاقيات النقدية الثنائية، والاستفادة من قدرات الشركات الخاصة والقائمة على المعرفة لدخول الأسواق الإقليمية، وإنشاء اتحادات مع الدول المستهدفة للإنتاج المشترك وتجاوز بعض القيود المصرفية.

 

كما شكل تصدير الخدمات الفنية والهندسية والمنتجات الزراعية والصناعية إلى منطقة آسيا الوسطى والقوقاز وشمال أفريقيا، من بين المحركات الفعالة في تحقيق استقرار نسبي للنمو الاقتصادي.

 

وقد نجحت هذه الآليات في خلق مسارات بديلة للتعامل الاقتصادي، معززة بذلك مرونة الاقتصاد الإيراني في مواجهة الضغوط الخارجية. ويشير المراقبون إلى أن هذه الأدوات غير التقليدية أسهمت في الحفاظ على تدفق السلع ورؤوس الأموال.

 

فشل العقوبات مع ترحيب عالمي بالتعاون مع إيران

 

لم تتمكن سياسة “الضغط الأقصى” لحكومة دونالد ترامب من إقصاء إيران بشكل كامل. فالإدارة الذكية للتفاعل مع دول مثل روسيا والصين وتركيا والهند، والترحيب الذي أبدته الاقتصادات الناشئة بالشراكة مع إيران، مهّدت الطريق لفشل تدريجي لهذه السياسة.

 

وتُظهر الإحصائيات أن العديد من المؤسسات والخبراء الدوليين، رغم الضغوط السياسية الغربية، لا يزالون يرون في إيران اقتصاداً جذاباً وغنياً بالإمكانيات. وإن تغيير هيكلة الصادرات، والمشاركة في مشاريع الطاقة بآسيا الوسطى، والدور الفاعل في ممر الشمال-الجنوب، كلها دلائل على هذا الترحيب النشط.

 

وقد نجحت الدبلوماسية الاقتصادية الإيرانية في تحويل التحديات إلى فرص، حيث أصبحت طهران شريكاً لا يمكن تجاهله في المعادلات الإقليمية والدولية، وهذا التحول يعكس مرونة الاقتصاد الإيراني وقدرته على التكيف مع الظروف الصعبة.

 

الدور الإيراني الفاعل في العلاقات الاقتصادية العالمية

 

يشكل الحضور النشط لإيران في أوبك – كدولة محورية في تحديد الحصص وأسعار النفط العالمية – رسالة مهمة إلى الأسواق الدولية.

 

ورغم العقوبات، حافظت إيران على دورها في موازنة سوق الطاقة، مستندة إلى قدراتها التكنولوجية ومهاراتها التفاوضية؛ بالإضافة إلى ذلك، فإن مشاركة إيران في التكتلات الاقتصادية الناشئة مثل “بريكس بلس” والإتفاقيات الإقليمية، مهّدت الطريق لإعادة تعريف دورها كــ”محور ربط بين الشرق والغرب”، وهذا التحوّل الاستراتيجي يعكس الرؤية الإيرانية لتعزيز التعاون متعدد الأقطاب في النظام الاقتصادي العالمي.

 

إضعاف سياسة “الضغط الأقصى”

 

المؤتمرات المنعقدة، بما في ذلك اجتماع أوبك الأخير في طهران، لم تقتصر على تبادل الخبرات الفنية، بل ساهمت في تعزيز الشرعية الدولية للتعاون مع إيران وتقليل تأثير سياسة “الضغط الأقصى”. هذه الاجتماعات لم تحم إيران فحسب، بل وفرت حماية لجميع الأعضاء ضد تأثير الأحادية القطبية الأمريكية في المجال الاقتصادي.

 

ووفقًا لتحليل الخبراء، فإن حضور الوفود الأجنبية العديدة في هذه المؤتمرات وتوقيع مذكرات التفاهم متعددة الأطراف الهامة، يمثل الضربة الأكثر تأثيرًا لمشروع “عزل إيران” في السوق العالمية. كما عززت هذه التطورات من مكانة إيران كشريك اقتصادي موثوق به، وقوضت بشكل كبير المزاعم الأمريكية حول فاعلية العقوبات.

 

إعادة بناء واستعادة مكانة إيران

 

لإعادة إيران لمكانتها الإقليمية والعالمية المستحقة، يجب اتباع ثلاث إستراتيجيات كبرى:

 

1- تنويع المبادلات: الخروج من الاقتصاد أحادي المنتج والتركيز على تصدير السلع التكنولوجية والخدمات.

 

2- تمكين القطاع الخاص: دعم حقيقي للشركات القائمة على المعرفة ورواد الأعمال والمصدرين.

 

3- بناء الثقة في بيئة الاستثمار: زيادة الشفافية واستقرار الأنظمة، وتعزيز الدور في سلاسل القيمة العالمية، وتحسين البنى التحتية للتبادل المالي.

 

وفي هذا الصدد، يقول الخبير الاقتصادي فرهاد مهري: نؤمن بأن الاقتصاد الإيراني، رغم القيود الصارمة، يمتلك قدرات كامنة هائلة خاصة في مجال الكوادر المتخصصة والأسواق الإقليمية.

 

وإذا استمرت الحكومة في دبلوماسيتها الاقتصادية، يمكنها استعادة وتعزيز مكانة إيران في النظام العالمي مع الحفاظ على استقلاليتها، حيث نلاحظ أن النظرة العالمية للسياسات الأمريكية تتغير، وأن عصر العزلة الاقتصادية لإيران قد ولّى.

 

ويضيف مهري: رغم استمرار التحديات التي تفرضها العقوبات، فإن تحول إيران من النهج السلبي إلى الدبلوماسية الاقتصادية النشطة قد مكّنها من إفشال سياسة الضغط الأقصى، والمؤشرات تدل على إعادة بناء المكانة الاقتصادية للبلاد إقليمياً وعالمياً، واستمرار هذا المسار وإكمال خارطة طريق التنمية سيحددان النجاح النهائي في تجاوز عقبة العقوبات والعودة إلى المكانة اللائقة في النظام الاقتصادي العالمي.

 

ويؤكد الخبير الاقتصادي أن ما مر به الاقتصاد الإيراني في السنوات الأخيرة يمثل حالة فريدة من الصمود الاقتصادي في مواجهة أقسى الضغوط والتحولات السياسية. ولم يعد الصمود السلبي كافياً، واضطرت الحكومة تحت ضغط العقوبات المشددة وسياسات “الضغط الأقصى” الأمريكية في عهد ترامب إلى إعادة تعريف المكانة الاقتصادية لإيران.

 

وكانت نتيجة هذا التحول ولادة نهج دبلوماسي اقتصادي نشط منح الاقتصاد الإيراني حيوية جديدة وخلق فرصاً غير مسبوقة.

 

تجربة التحوّل في رؤية الحكومة للدبلوماسية الاقتصادية

 

بحسب مهري، نجحت الحكومة الرابعة عشرة في تحويل الدبلوماسية الاقتصادية إلى المحور الرئيسي للتفاعلات الخارجية، عبر تجاوز هيمنة النهج السياسي الصرف والاعتماد على القدرات الاقتصادية للبلاد.

 

وتعكس الجهود المبذولة في تعزيز التجارة الإقليمية والعالمية، ودعم صادرات السلع ذات القيمة المضافة الأعلى، وجذب استثمارات الشركات الأجنبية، كلها ثمار هذه الرؤية الجديدة.

 

ويؤكد الخبير أن استمرار هذا النهج سيمكن إيران – حتى في ظل العقوبات – من استعادة حصتها تدريجياً في الاقتصادين الإقليمي والعالمي. وهذه الاستراتيجية تمثل نقلة نوعية في التعامل مع التحديات الاقتصادية، حيث تحوّلت الدبلوماسية من أداة سياسية إلى رافعة اقتصادية فاعلة.

 

توسعة التعاون مع العالم

 

ويوضح مهري أن تطوير التعاون الاقتصادي الإيراني مع الدول المجاورة وغير الإقليمية خلال فترة العقوبات شهد تقلبات متعددة. فقد واجهت هذه الشراكات مقاومة غربية وضغوطاً مكثفة؛ لكن النشاط الاستثنائي للقطاع الخاص والإبداع في التمويل والصادرات غير النفطية، وإصرار السياسات المقايضية، نجحت عملياً في انتشال إيران من فخ الركود.

 

ويضيف: لم تعد الأسواق المستهدفة لإيران تقتصر على العراق وتركيا وأفغانستان فحسب، بل امتدت لتشمل دول آسيا الوسطى والصين وروسيا وشركاء جدد في أفريقيا.

 

وهذه المؤشرات تدل على أن الاقتصاد الإيراني يحطم الحدود التقليدية ويؤسس لنظام تعاون متنوع.

 

تجاوز العقوبات بذكاء

 

ويؤكد الخبير الاقتصادي أن التعاون مع دول مختلفة، خاصة القوى غير الغربية مثل الصين وروسيا والهند، والاعتماد على مبادرات مثل المقايضة والإتفاقيات النقدية الثنائية، شكلت طريقاً عملياً لتخفيف تأثير العقوبات.

 

ويضيف: النقطة الجوهرية أن جزءاً كبيراً من الاقتصاد العالمي لا يزال يرغب بالتعاون مع إيران.

 

ومن خلال إنشاء المراكز التجارية ومكاتب الأعمال المشتركة والمصارف الثنائية، استطاعت إيران استغلال طاقات كامنة والحفاظ على دورة التجارة إلى حد معقول.

 

فشل العقوبات: حقيقة أم دعاية؟

 

وفي الختام، تؤكد الشواهد القابلة للملاحظة وتحليل الخبراء الاقتصاديين فشل سياسة “الضغط الأقصى” الأمريكية ضد إيران. وإحصائيات التجارة الخارجية ونمو الصادرات غير النفطية واستمرار النشاط في سوق الطاقة العالمي تظهر أن هذه السياسة أقل فعالية مما كانت تأمل أمريكا.

 

والترحيب من قبل الدول الإقليمية وبعض القوى العالمية باستمرار التعاون مع إيران يؤكد قدرة ومرونة السوق والسياسيين الإيرانيين.

 

المسؤولون الاقتصاديون في إيران، باستخدامهم جميع الإمكانيات، تمكنوا ليس فقط من صدّ “الضغط الأقصى”، بل رفعوا تكاليف هذا الضغط على بعض الأطراف الغربية.

 

وتمكنت إيران – حتى في ظل العقوبات – من الحفاظ على دورها كعضو رئيسي في “أوبك” وفاعل مؤثر في سوق النفط العالمي.

 

إصرار إيران على المشاركة الفاعلة في الاجتماعات والمفاوضات التنفيذية والفنية يحمل رسالة كبيرة للدول والأسواق العالمية: “عزل طهران غير ممكن”. كما أن انضمام إيران إلى الإتفاقيات الاقتصادية العابرة للأقاليم مثل “بريكس” يعني توسيع نطاق التأثير وتقليل الاعتماد على الآليات الغربية.

 

 

المصدر: الوفاق خاص