مع انكشاف التواطؤ القضائي..

 هل أصبحت العدالة البريطانية أداة سياسية لخدمة الاحتلال الصهيوني؟

تدخل «إسرائيل» دفع لندن إلى التخلي عن المعايير القانونية الراسخة، لتوجيه الاتهامات إلى ناشطين مناهضين للإبادة الجماعية، بموجب أحكام مكافحة الإرهاب المسيّسة للغاية

في قلب حرب الإبادة الجماعية الصهيونية لقطاع غزة والتحولات الدبلوماسية التي تشهدها الساحة الدولية، يبرز الكشف الأخير عن وثائق حكومية بريطانية واستعراضها على موقع «ذا غراي زون» كواقعة تؤدي إلى زعزعة الثقة في استقلالية القضاء البريطاني. إذ أفادت الوثائق بتواطؤ ملحوظ بين مدعين عامين بريطانيين وسلطات الاحتلال الصهيوني؛ خطوة يرى الكثيرون فيها تحويرًا للمبادئ القانونية وتوجيهًا سياسيًا يستهدف تهميش الأصوات المعارضة لسياسات الإبادة الجماعية في غزة.

 

تفاصيل الوثائق والمسار القضائي

 

كشفت وثائق حكومية بريطانية، استعرضها موقع «ذا غراي زون»، عن تواطؤ مدعين عامين بريطانيين مع سلطات الاحتلال الصهيوني، لتصنيف متظاهرين مناهضين للإبادة الجماعية في قطاع غزة، كـ«إرهابيين وسجنهم لأسبابٍ مُسيّسة للغاية».

 

وتظهر الوثائق أن لندن نسقت مع مسؤولين صهاينة، لمقاضاة متظاهرين مرتبطين بجماعة «فلسطين أكشن» الناشطة، لتعطيلهم عمليات شركة «إلبيت سيستمز»، المُصنّعة للأسلحة الفتاكة المُستخدمة في الإبادة الجماعية في غزة.

 

وذكر «ذا غراي زون»، أن الوثائق تسلط الضوء على «حملة نفوذ صهيونية»، استمرت لسنوات، وتُشير إلى أن تدخل «إسرائيل» دفع لندن إلى «التخلي عن المعايير القانونية الراسخة، لتوجيه الاتهامات إلى ناشطين مناهضين للإبادة الجماعية، بموجب أحكام مكافحة الإرهاب المسيّسة للغاية».

 

وفي التفاصيل، كشفت الوثائق تزويد مكتب المدعي العام البريطاني (AGO)، نظراءه الإسرائيليين بإرشاداتٍ، حول كيفية تجنّب أوامر التوقيف بتهمة ارتكاب جرائم حرب، مُطمئنًا إياهم بأن هيئة الادعاء الملكية (CPS) عزّزت الضمانات الإجرائية، المتعلقة بإصدار أوامر التوقيف الخاصة، في السنوات الأخيرة” ، بحسب الموقع نفسه.

 

كما كشف ملف آخر عن مشاركة رئيسة قسم القانون الدولي في مكتب المدعي العام البريطاني، نيكولا سميث،  «تفاصيل الاتصال» الخاصة بالمدعين العامين ومحققي مكافحة الإرهاب في المملكة المتحدة مع نائب السفير الإسرائيلي في لندن.

 

وأرسلت سميث بريداً الكترونياً، وافتتحته بعبارة «نيكولا سميث إلى الصهاينة بشأن تفاصيل الاتصال بـ CPS/SO15»، في إشارة إلى أن حكومة المملكة المتحدة، أحالت «تل أبيب» مباشرة إلى CPS، أو خدمة الادعاء الملكية، وكذلك إلىSO15، فرقة مكافحة الإرهاب في لندن، لتعزيز مقاضاة الناشطين التابعين لـ«فلسطين أكشن».

 

وكان تحالف واسع من المنظمات المناهضة للإبادة، قد دعا، في وقت سابق، إلى تظاهرة جماعية ضخمة، أمام البرلمان، في لندن، في 4 حزيران/يونيو ، من أجل الضغط على الحكومة البريطانية، لوقف دعمها العسكري لـكيان العدو وفرض عقوبات عليها، بسبب  بجرائم الحرب الجارية في قطاع غزة.

 

الأبعاد القانونية والسياسية؛ بين استقلالية القضاء والتأثير الدبلوماسي

 

إن هذه القضية تطرح العديد من التساؤلات حول النقطة التي يتلاشى عندها التمييز بين السلطة القضائية والسياسة الخارجية في المملكة المتحدة ومنها تحريف معايير العدالة إذ تشير الوثائق إلى أن لندن، تحت تأثير «حملة نفوذ صهيونية» استمرت لسنوات، تخلت عن معايير قانونية راسخة لصالح تحقيق أهداف سياسية معينة. وهذا ما يثير الجدل حول ما إذا كانت السلطات القضائية البريطانية قد خضعت لضغط من خارج حدودها القانونية، مما يؤدي إلى انتهاك مبادئ استقلالية القضاء. كما برز التحول في معايير مكافحة الإرهاب إذ إن استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لتجريم النشاط السياسي للمعارضة أصبح استراتيجية يُنظر إليها على أنها وسيلة لإسكات أصوات النقاش الحر. فبدلاً من السير في إطار محايد يضمن حماية الحقوق والحريات، يتم استغلال هذه الأدوات القانونية لفرض سياسات ضاغطة ضد من ينادون بوقف إبادة جماعية.

وأخيراً تحول العدالة إلى أداة دبلوماسية إذ يشير ما حدث إلى أن الجهات الأمنية والقضائية قد أصبحت جزءًا من منظومة ضغط دبلوماسية تهدف إلى خدمة مصالح سياسية تتعلق بالعلاقات مع الاحتلال الصهيوني. هذه الخطوة قد تُعد بمثابة تحوير للعلاقة بين الدولة ونظام العدالة الذي يفترض أن يكون فوق السياسة، وهو ما يثير استياء وتجاذبات داخلية وخارجية.

 

جهود المجتمع المدني لتصحيح المسار

 

لم يمر هذا الكشف دون أن يثير ردود فعل واسعة من قبل منظمات حقوقية وحركات شعبية. فقد دعا تحالف من المنظمات المناهضة للإبادة الجماعية إلى تنظيم مظاهرة جماهيرية ضخمة أمام البرلمان البريطاني . هذا الاحتجاج يهدف إلى الضغط على الحكومة البريطانية لوقف دعمها العسكري لكيان العدو وفرض عقوبات في مواجهة ما وصفه المنتقدون بانتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان.

هذه الاحتجاجات ليست مجرد تعبير عن غضب شعبي، بل هي إشارة إلى تضامن عالمي يريد إعادة تسليط الضوء على الانحيازات القضائية والسياسية التي قد تؤدي إلى تجريح مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.

 

التداعيات المحتملة وآفاق المستقبل

 

على المستوى الداخلي البريطاني يبقى السؤال المطروح حول أثر هذا التواطؤ على ثقة المواطنين في النظام القضائي البريطاني. فقد يؤدي الإدراك العام بأن العدالة تُستخدم كأداة ضغط سياسي إلى تآكل الثقة في مؤسسات الدولة واستقلاليتها.

 

أما على المستوى الدولي فمن المحتمل أن تتصاعد التوترات الدبلوماسية بين المملكة المتحدة وكيان العدو، وكذلك مع الدول والجهات التي تسعى لتأصيل معايير العدالة وحقوق الإنسان. كما يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة تقييم العلاقات القضائية والسياسية مع شركاء دبلوماسيين آخرين قد يُنظر إليهم على أنهم يضغطون على نظام العدالة الداخلية.

 

وفي سياق العدالة الدولية  يُعد هذا الوضع إشارة خطر إلى أن النزاعات السياسية قد تتغلغل في نواة الأنظمة القضائية، ما يستدعي اتخاذ خطوات جذرية لتعزيز آليات الرقابة وضمان استقلالية القضاء عن الأطراف الدبلوماسية والسياسية.

 

ضرورة الفصل بين السياسة والعدالة

 

يبدو أن الوثائق المسربة تكشف عن تحول خطير في استعمال الأجهزة القضائية كأدوات لتحقيق أهداف سياسية خارجية. وبينما يستمر النقاش حول مدى صحة هذه الادعاءات، يظل من الضروري إعادة التأكيد على ضرورة الفصل بين السياسة والعدالة، وضمان أن يكون القانون هو المرجع الوحيد في محاسبة كل من ينتهك المبادئ الإنسانية والقانونية. تظل التحديات أمام المجتمع الدولي قائمة، في ظل تصاعد الجهود لتوازن قوى النفوذ المعقدة بين الدول والمؤسسات القضائية.

 

 

المصدر: الوفاق