في ظل التحديات الكبرى التي تواجه المجتمعات الإنسانية، يبرز خطر خفي لا يقل تهديدا عن الأوبئة والأزمات، إنه داء (القيل والقال) الذي يحول المجتمعات النشطة إلى جثث هامدة تتحرك على ألسنة الناس، لقد وضع الإمام الباقر (عليه السلام) يده على هذا الداء العضال عندما ربطه بالنهي القرآني الصريح، حيث قال: (إن الله نهى عن القيل والقال… قال تعالى (لا خير في كثير من نجواهم)، مؤكدا أن الكلمة ليست مجرد حروف تخرج من الفم، بل هي مسؤولية أخلاقية ودينية تترتب عليها آثار قد تهدم ما بناه الناس في سنوات.
تعريف القيل والقال
القيل والقال هو تداول الكلام بين الناس دون تحقق من صحة ما يقال، وغالبا ما يكون هذا الكلام محملا باللوم والإشاعات التي تثير البلبلة وتسبب النزاعات، وهو نوع من الحديث غير المسؤول الذي يهدف إلى النميمة ونقل الأخبار سواء أكانت صحيحة أم خاطئة دون مراعاة لتأثيرها على الآخرين.
آثار القيل والقال
آثار القيل والقال لا تقتصر على الفرد فقط، بل تمتد لتشمل المجتمع بأكمله، حيث تؤثر سلبا على تماسكه واستقراره، وفيما يلي أبرز هذه التأثيرات:
هدم الثقة بين الأفراد والمجتمعات
تعتبر الثقة الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الاجتماعية، فهي الرابط الذي يجمع بين الأفراد وتساهم في خلق بيئة مستقرة قائمة على الاحترام والتفاهم، فعندما تسود الثقة بين الناس يصبح التواصل أكثر شفافية، وتتلاشى الحواجز النفسية التي تعيق الانسجام والتعاون، إلا أن القيل والقال يشكل تهديدا مباشرا لهذه الثقة، حيث يؤدي إلى نشر الشك والريبة بين الأفراد مما يتسبب في تفكك العلاقات وتدمير الروابط الاجتماعية.
عندما تنتشر الإشاعات والكلام غير الموثوق به يبدأ الناس في التعامل مع بعضهم بحذر مفرط، ويتجنبون الإفصاح عن أفكارهم أو مشاعرهم خوفا من إساءة فهمها أو استغلالها، وهذا يؤدي إلى خلق بيئة غير مستقرة يصبح فيها الجميع متوجسا من نوايا الآخرين، ويتراجع الشعور بالأمان الاجتماعي.
وهذا المعنى يتضح جليا في قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم)، فالمقصود هنا ليس فقط نشر الفواحش بمعناها الظاهر، بل يشمل كل ما يزرع الفساد في المجتمع، كالإشاعات المغرضة والقيل والقال الذي يهدم الثقة ويؤجج الفتن، فالذين يتعمدون نشر الأخبار الكاذبة والقصص الملفقة يساهمون في زعزعة استقرار المجتمع، وهم بذلك يستحقون العذاب الأليم كما حذرهم الله تعالى.
تفكك العلاقات الأسرية
تعد الأسرة الملاذ الآمن الذي يلجأ إليه الإنسان حيث يجد فيها الحب والدعم والتفاهم، لكن عندما يتسلل القيل والقال إلى أجوائها تبدأ الثقة في التلاشي ليحل محلها الشك والريبة، فالكلمات التي تقال دون تحقق قد تكون بذورا للفرقة حيث تنشأ النزاعات وتتعمق الفجوات بين أفراد العائلة.
ومع مرور الوقت، تتحول الأحاديث العفوية إلى أداة تهدم العلاقات، حيث يصبح كل فرد متوجسا من نوايا الآخرين، ويتعامل بحذر مفرط خوفا من التأويلات الخاطئة أو استغلال الكلام بشكل غير عادل، ومع مرور الوقت تتفاقم الخلافات الصغيرة التي كان يمكن حلها بسهولة لتتحول إلى جدران عالية تفصل بين أفراد العائلة ويصعب تجاوزها مما يضعف أسس العلاقات العائلية ويهدد استقرارها.
وقد تؤدي هذه الحالة إلى عزلة فردية داخل الأسرة، فالأسرة التي يسودها القيل والقال تفقد قدرتها على أداء وظائفها الأساسية في توفير الدعم النفسي والعاطفي لأفرادها فيتحول البيت من مصدر للراحة إلى مكان للعناء، ويصبح أفراد العائلة كالغرباء الذين يعيشون تحت سقف واحد دون تواصل حقيقي، وقد ورد عن الامام الباقر (عليه السلام) قوله: (بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهدا ويأكله غائبا)، وهو تحذير شديد من النفاق الذي يهدد العلاقات الأسرية والمجتمعية معا، حيث يتظاهر بعض الأشخاص بالمودة والاحترام أمام أفراد عائلتهم، لكنهم ينقلون الكلام المسيء عنهم في غيابهم، مما يؤدي إلى الشحناء والعداوة فيما بينهم.
نشر العداوة بين الناس
عندما يتداول الكلام المسيء أو تنشر الشائعات المغرضة، فإن ذلك لا يقتصر على مجرد إثارة المشاعر السلبية، بل يتحول إلى أداة فاعلة في نشر العداوة بين الناس، فالكلمات الجارحة والتأويلات الخاطئة تخلق بيئة مسمومة تتسم بالكراهية وسوء الظن، مما يدفع الأفراد إلى تبني مواقف عدائية تجاه بعضهم البعض، وتتغذى هذه العداوة على مشاعر الغضب والإحساس بالظلم الناتج عن تشويه الحقائق وتلفيق التهم.
ومع تصاعد حدة هذه المشاعر السلبية، يصبح حل الخلافات والنزاعات أكثر صعوبة وتعقيدا، إذ يؤدي تراكم آثار القيل والقال إلى تقويض الثقة بين أفراد المجتمع، مما يعمق الانقسامات ويوسع الفجوة بينهم، وفي كثير من الأحيان، لا يقتصر الأمر على مجرد تبادل الاتهامات أو الشعور بالخيانة، بل يتطور إلى صراعات حقيقية تتخذ شكل مواجهات لفظية عنيفة، وقد تتفاقم لتصل إلى العنف الجسدي، نتيجة للتوتر والاحتقان المستمر بين الأطراف.
وقد حذر الإمام الصادق (عليه السلام) من هذا الأمر، فقال: (من أعان على مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل وبين عينيه مكتوب: آيس من رحمة الله)(4)، فالحديث الشريف يؤكد ضرورة الحذر الشديد من خطورة المساهمة في
ظلم الآخرين ولو بكلمة واحدة، فالاشاعات والكلام المسيء قد يكونان سببا في تشويه سمعة الاشخاص الابرياء او الحاق الضرر بعلاقاتهم الاجتماعية، مما يؤدي الى عواقب لا يمكن تداركها.
إيذاء مشاعر الآخرين
لا يقتصر اذى القيل والقال على الجوانب الاجتماعية الظاهرة، بل ينفذ الى اعماق النفس البشرية كالسهم السام، فالكلمات الجارحة والاشاعات المغرضة ليست مجرد الفاظ عابرة، بل هي ضربات موجعة تترك ندوبا عميقة في الروح، فحين يتعرض المرء لهذا الوابل من الجراح اللفظية، يغوص في دوامة من المشاعر المؤلمة، من المهانة الى الظلم الى العزلة القاسية، مما يجعله فريسة سهلة للقلق والاكتئاب.
ومع كل موقف مؤلم جديد، تزداد السمية النفسية داخل الفرد، وتتركم الاحزان كطبقات من الرصاص على صدره، فتتآكل ثقته بنفسه، وتضعف مناعته النفسية امام تحديات الحياة، فان القيل والقال لا يؤذي فقط الشخص المستهدف بشكل مباشر، بل يمكن ان يخلق جوا من الخوف والترقب في المجتمع ككل.
فعندما يدرك الافراد انهم قد يصبحون في أي لحظة هدفا للشائعات والكلام المسيء، تتفاقم مستويات القلق العام، ويتنامى الشعور بعدم الامان النفسي، فيتحول الحذر الى حالة دائمة، ويبدأ الناس في تقييد تصرفاتهم وكلماتهم خشية ان يتم استغلالها ضدهم، هذه البيئة المشحونة بالتوتر تؤدي الى تراجع الثقة المتبادلة، فتنهار العلاقات الاجتماعية تدريجيا، حيث يشعر الجميع وكأنهم يسيرون في حقل الغام لا يعرف متى ستنفجر احدى شائعاته.
وقد حذر الله عز وجل من إيذاء المؤمنين دون وجه حق، فقال: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا)، وهو تحذير شديد من الظلم والافتراء على الناس، فالإشاعات المغرضة والقيل والقال تندرج ضمن هذا الأذى، حيث يتم تشويه سمعة الأبرياء والإضرار بهم دون أن يكونوا قد ارتكبوا أي ذنب يستحق ذلك، مما يستوجب العقاب الإلهي.
انتهاك حرمة الآخرين
ان انتهاك حرمة الآخرين بالغيبة والنميمة لا يعد أمرا هينا، بل هو اعتداء صارخ على كرامتهم وحقوقهم الإنسانية، وهو من أشد الأفعال التي تزرع الفتنة بين الناس، وتقوض الثقة، وتؤدي إلى تفكك العلاقات الاجتماعية.
فالغيبة – ذلك الحديث عن الآخر بما يكره – ليست مجرد كلمات تقال ثم تنسى، بل هي سهام مسمومة تنفذ إلى قلب العلاقات الاجتماعية فتفتتها، إنها جريمة يرتكبها المرء بلسانه بينما الضحية غائب لا يستطيع الدفاع عن نفسه، والأمر الأكثر خطورة أن المجتمعات أحيانا تتغاضى عن هذا الانتهاك بل وقد تستمتع به تحت مسمى (الثرثرة البريئة)، مع أن القرآن الكريم يحذرنا تحذيرا شديدا: ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب احدكم ان يأكل لحم اخيه ميتا فكرهتموه)، تصوير قرآني بليغ يجسد بشاعة الغيبة وكأنها فعل يفوق في قسوته اكل لحوم البشر، حيث يجسد هذه العادة السيئة باعتبارها انتهاكا خطيرا لكرامة الانسان، وليس من الغريب أن ينبه الإمام الباقر (عليه السلام) عن هذه الآفة الأخلاقية، فقد روي عنه انه قال (إذا كان يوم القيامة، أقبل قوم على الله عز وجل فلا يجدون لأنفسهم حسنات، فيقولون: إلهنا وسيدنا ما فعلت حسناتنا؟ فيقول الله عز وجل: أكلتها الغيبة: إن الغيبة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحلفاء) هذا الحديث الشريف، يعكس خطورة الغيبة وعواقبها الوخيمة على الإنسان في يوم الحساب.
أما النميمة، فتأخذ الجرم إلى مستوى أعلى من الخبث والضرر، فهي نقل الكلام بين الأطراف بغرض الإفساد وإشعال العداوات، فالنمام لا يكتفي بانتهاك حرمة شخص واحد، بل يحول كلماته إلى قنابل موقوتة تدمر الثقة بين الأفراد والمجتمعات، وقد ورد التحذير من النميمة في العديد من الروايات، ومنها ما جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام): (الجنة محرمة على المغتابين المشائين بالنميمة)، وهو تحذير شديد يؤكد عِظم هذا الذنب وخطورته، حيث يحرم مرتكبه من نعيم الجنة بسبب سلوكه التخريبي.
وفي حديث اخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) يعكس مدى تأثير النميمة على حياة الناس ومسؤولية ناقل الكلام، إذ قال: (إن العبد يحشر يوم القيامة وما أدمى دما فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا رب إنك تعلم أنك قبضتني وما سفكت دما، قال: بلى، وما سمعت من فلان بن فلان كذا وكذا فرويتها عنه فنقلت حتى صار إلى فلان فقتله عليها، فهذا سهمك من دمه)، هذا الحديث يبين أن مجرد نقل الكلام قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، تصل إلى الإضرار بحياة الآخرين، فيتحمل الناقل مسؤولية هذا الدم وإن لم يقترف الجريمة بنفسه، مما يؤكد ضرورة الحذر من نشر الأخبار المغرضة والكلام المسيء بين الناس.
بعد أن استعرضنا خطورة القيل والقال وتأثيره المدمر على العلاقات الأسرية والاجتماعية، لابد أن نشير إلى أهمية مواجهة هذه الظاهرة ومعالجة آثارها قبل أن تتفاقم وتتحول إلى حالة يصعب السيطرة عليها، فلا يكفي التحذير من القيل والقال، بل يجب اتخاذ خطوات عملية للحد من انتشارها وتحقيق التماسك الاجتماعي
كيفية مواجهة القيل والقال
لمحاربة هذه الظاهرة، يمكن اتباع مجموعة من الأساليب الفعالة التي تعزز الوعي وتحد من تأثير الكلام المسيء في المجتمع، ومن أهم هذه الأساليب:
ضبط اللسان
يعد ضبط اللسان من أعظم الفضائل التي تسهم في بناء العلاقات الاجتماعية على أسس من الاحترام والتقدير، ومن الوسائل الفعالة لتحقيق ذلك أن يعتاد الإنسان التفكير مليا في عواقب كلماته قبل أن ينطق بها، فيسأل نفسه: هل ستجلب هذه الكلمات خيرا أم ستلحق ضررا؟ وهل ستسهم في ترسيخ المحبة أم في إثارة الفتن؟ فإن كان الكلام طيبا ومفيدا فليقله، وإن كان جارحا أو لا يحقق منفعة فالصمت هو الخيار الأمثل.
فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت)، هذا الحديث الشريف يجعل من الكلمة مسؤولية دينية وأخلاقية، حيث يرتبط انتقاء الكلام بالإيمان الحقيقي، فالمؤمن الحق لا يكون سببا في نشر الإساءة أو المساهمة في الظلم، بل يكون داعيا للخير أو يمسك لسانه عن أي كلام لا فائدة منه.
ومن السلوكيات التي ينبغي أن تغرس في النفس تجنب نقل أي كلام يسمع أو يتناقل، خصوصا إذا كان يحمل طابعا سلبيا أو يمس سمعة الآخرين، فالإنسان مسؤول عن كل كلمة ينطق بها، ويؤكد هذه الحقيقة قول الله تعالى في كتابه العزيز: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد)، هذه الآية تدل على شمولية التسجيل لكل ما يتفوه به الإنسان من أقوال، فلا يوجد استثناء لكلمة واحدة، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، جادة أو مازحة، خيرا أو شرا، فكل لفظ يخرج من الفم له أهميته ويسجل.
نشر ثقافة الحوار البناء
تلعب الإشاعات دورا هداما في العلاقات الاجتماعية، مؤدية إلى سوء الفهم وتوتر الأجواء، لذا يتعين تعزيز ثقافة الحوار الصادق والمباشر، لا سيما داخل الأسرة، لحل النزاعات وتعزيز التفاهم المتبادل، فالحوار الصريح يقي من تفاقم المشكلات وتحول سوء الفهم إلى خلافات تهدد الاستقرار الأسري والمجتمعي، ولا يقتصر الحوار الفعال على الكلام فحسب، بل يستند إلى الإنصات العميق الذي يبني جسور الثقة والتفاهم، ويمنح الأفراد القدرة على التعبير بحرية وأمان.
وحين يبنى الحوار على الاحترام المتبادل، يصبح أداة فاعلة لتقوية الروابط وحل المشكلات بعقلانية وروية، ويكتسب الحوار قوته الحقيقية بالتركيز على البحث عن الحلول بدلا من تبادل الاتهامات، معززا التعاون والعمل المشترك، فعندما يسعى الأطراف لفهم وجهات النظر والبحث عن نقاط التقاء، يصبح التوصل إلى حلول وسطية ممكنا، مرسخا بذلك استقرار العلاقات الأسرية والاجتماعية.
ومن الأسس الراسخة لهذا النهج الحضاري، ترسيخ قيم الصدق والشفافية في التعاملات اليومية، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)، فالصدق يعزز الثقة ويحصن من تأثير الإشاعات، والابتعاد عن القيل والقال، الذي حذر منه القرآن الكريم: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) فالخوض في الأحاديث غير الموثوقة ينشر المغالطات ويشوه الحقائق، متسببا في التفرقة وسوء الفهم، ومؤثرا سلبا على استقرار المجتمع.
مقاطعة مروجي الإشاعات
إن مواجهة داء القيل والقال لا تقتصر على الامتناع عن نشر الإشاعات فحسب، بل تتعدى ذلك إلى الامتناع عن الاستماع إليها أو التفاعل معها بأي شكل من الأشكال، فإذا ما انتشر حديث مسيء أو إشاعة مغرضة، فإن الواجب يقتضي عدم منحها أدنى اهتمام أو تداولها بين الناس، لأن السلوك القويم يكمن في رفض الاستماع للحديث الآثم والتصدي له بالحكمة والتوجيه النبيل.
ومن أشد ما يردع المؤمن عن الخوض في مستنقع الإشاعات استحضاره لعواقب ذلك الوخيمة في الدنيا والآخرة، وقد صور الله تعالى ذلك اليوم العصيب في كتابه الكريم بقوله: (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا)، فهذا التذكير بعواقب الأفعال والأقوال يدفع المسلم الحق إلى اجتناب كل ما قد يورده موارد الهلكة ويستوجب عليه حسابا عسيرا، ويحثه على التحلي بالصدق والعدل في كل ما يصدر عنه من قول وفعل.
ولأن الإشاعات هي وقود الفتن الذي يشتعل به أوار الخلاف، وهي الأداة الخبيثة لتشويه الحقائق وتضليل العقول، فإن التصدي لها يبدأ بخطوة حاسمة وهي رفض تداولها، فالإشاعة لا تجد لها مرتعا خصبا إلا في الألسنة التي ترددها والآذان التي تصغي إليها، وإذا ما انقطعت حلقة النقل المشؤومة، خبا أوارها وانتهى خطرها المستطير، وهنا تتجلى المسؤولية الفردية لكل عضو في المجتمع في حماية نسيجه من الأخبار المغرضة والمعلومات المضللة، فكل فرد يجب أن يكون حارسا أمينا للكلمة قبل أن يكون مجرد ناقل لها بغير وعي، متحريا للدقة والصدق في كل ما يسمع وينقل، واضعا نصب عينيه أن كل لفظ ينطق به قد يحمل في طياته من التأثير ما يفوق تصوره، وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحذير شديد من نقل كل ما يسمع المرء، فقال: (كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع)(15)، وهذا الحديث الشريف يؤكد على ضرورة التثبت والتحري قبل نقل الأخبار، وأن مجرد السماع لا يبيح للإنسان نشره وتداوله بين الناس.
القيل والقال ليس مجرد كلمات تتناثر في المجالس، بل سلاح خفي يمزق نسيج المجتمع، ويهدم العلاقات، ويغرس بذور الشك والعداوة بين الأفراد، فلا يمكن بناء مجتمع قوي إلا على أساس من الصدق والأمانة، فالكلمة الطيبة تصنع جسور التواصل، والكلمة السيئة تهدم معالم الثقة والاحترام، فلنكن مسؤولين فيما نقول، ولنحمل أمانة الحديث بوعي وإخلاص، حتى يكون حديثنا مشكاة للنور، لا أداة للفرقة والدمار.
لنتخذ من تعاليم ديننا نبراسا يضيء لنا طريق التعامل الحسن، فقد أوصانا الله بالكلام الطيب، وجعل الصدق دربا للنجاة، فلا يكون لساننا إلا صوتا للحكمة، ولا يكون حديثنا إلا دعوة للخير والإصلاح، فالكلمة مسؤولية، والصمت حكمة، ولنتذكر أن المجتمعات تبنى بالمحبة والتسامح، لا بالإشاعات والقيل والقال، نسأل من الله التوفيق لنا ولكم وان يجعلنا من السائرين على نهج امامنا الباقر (عليه السلام).