إن حياة الجمود والركود والسقوط التي تعيشها المجتمعات والأمم في بعض مراحلها وحقبها، فإن الخروج من هذه الوهدة منوط ومرهون بعزائم البشر وإرادة الإنسان، ومشروط بالتزام هذه المجتمعات بشروط الخروج من المأزق وعوامل الانعتاق من أساس الجمود والخمود.
ففعل التغيير والتطوير دائماً وفي أيِّ اتجاه وحقل كان، منوط بإرادة الإنسان، فهو الذي يُقرِّر بقدراته وإرادته إمكانية التطوير والتغيير من عدمها.
ويشير إلى هذه الحقيقة القرآن الكريم، إذ يقول تبارك وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرّعد: 11].
فلا يمكن أن يتمَّ التغيير الاجتماعي إلَّا بتغيير الذوات وتهيئتها لقبول متطلَّبات التطوير، ومن دون تغيير النفس تبقى شعارات التغيير ويافطات التطوير أشبه شيء بمشروعات أحلام اليقظة والآمال البعيدة.
كما أن إرادة البشر وعزائمهم هي التي تُحدِّد واقعية المسار التطويري والتحديثي، فلا تطوير اجتماعيّاً إلَّا بتغيير للذات. وكلما توسَّعت دائرة الملتزمين بمشروع التغيير الذاتي؛ أي تغيير ما بالنفس، كان المجتمع أقرب إلى التطوير الشامل.
والدين الإسلامي لا يعالج مشاكل البشر بحلول سحرية أو طرائق إعجازية، وإنما منظور الإسلام في معالجة مشكلات البشر المختلفة هو العناية بتهذيب النفس وتطهيرها من الرواسب والشوائب، حتى تكون مهيَّأة بشكل تامٍّ لعمليات التغيير والخروج من آثار المشكلات التي تُؤرِّق الإنسان والمجتمع المسلم. لذلك نجد أن القرآن الحكيم يُؤكِّد على اتِّباع العلم ومفارقة الجهل والظن وكل المفردات التي لا تُؤدِّي إلى المعرفة والخبرة، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسرَاء: 36]، وقال تعالى: (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [النّجْم: 28]؛ وذلك لأن اتِّباع الظن لا يُؤدِّي إلَّا إلى مراكمة الأخطاء والمشاكل. ولهذا قال علماء المنطق: «إن الحكم على الشيء فرع عن تصوُّره»، ولا شك في أن الظنون والاحتمالات لا تُؤسِّس لدى الإنسان تصوُّراً دقيقاً عن طبيعة المشكلات وطرق معالجتها.
فالإنسان يصاب بالعطالة إذا كانت إرادته خائرة وعزيمته واهنة؛ لذلك فإن حجر الزاوية في عملية التغيير وتذليل المشكلات التي تعترض طريق الإنسان والمجتمع، هو أن تكون لدى الإنسان إرادة وعزيمة راسخة للخروج من شرنقة المشاكل وبؤر الأزمات والمآزق التي يعيشها. فالإرادة والعزيمة من الشروط الأساسية التي يعتبرها الدين الإسلامي أساسية في معالجة مشكلات البشر.
«فالتوجيهات الإسلامية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تطلب -في البدء- تعزيز الذات وتغييرها المتواصل إيمانيّاً، ثم تمضي باتجاه الأسرة الأقرب إلى الإنسان الفرد، في علاقاته الخارجية، ومن هناك تنداح الدائرة باتجاه الجار، والقربى، والحي والمدينة، فالمجتمع المسلم، فالأمة الإسلامية على امتدادها، فالشعوب والأمم المجاورة، فالإنسانية جمعاء.
إن بؤرة الحركة، هي الذات: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغِيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفَال: 53]، وحدها الآخر، هو البشرية (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبيَاء: 107]. وما بين الذات والبشرية تتحرَّك المعطيات الإسلامية، تشريعاً وتوجيهاً، لكي ترسم لكل حالة طريقها، وتضع كل ممارسة في مكانها الموزون، ولكي ما يلبث هذا الجهد الديناميكي، الذي لا يقف عند حدّ أن يساهم في صياغة الحياة الإسلامية المتوازنة المستقيمة، الآمنة، السعيدة، القادرة على العطاء وبقطبيها الفرد المسلم والمجتمع المسلم».
فالخطوة الأولى التي ينبغي أن نقوم بها إزاء كل ظاهرة ومشكلة هي البحث والفحص الجاد عن الأسباب الذاتية التي أدَّت إلى هذه الظاهرة أو المشكلة، فلا بد أن نُوجِّه الاتِّهام أولاً إلى أنفسنا، قبل أن نُوجِّهه إلى غيرنا.
وهذه المنهجية تُلخِّصها الآية القرآنية (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عِمرَان: 165]، فإزاء كل هزيمة، إزاء كل مرض وظاهرة سيئة، كل مصيبة على رؤوسنا، ينبغي أن نلتفت قبل كل شيء إلى نصيبنا، إلى دورنا، إلى ما كسبته أيدينا.
إن واقع العرب والمسلمين الراهن هو أسوأ واقع، والانهيار في حياتهم يُهدِّد وجودهم نفسه، ولكن أين يمكن أن يقف هذا الانهيار، ويبدأ التحوُّل؟ جوابنا الحاسم: في أنفسنا، يجب أن يقف في أنفسنا الانهيار، ويبدأ في أنفسنا التحوُّل، فإذا تحوَّلنا إلى مسلمين حقيقيين كما يريد الإسلام تحوَّل بنا مجتمعنا، وتحوَّل بنا المسلمون في كل مكان، وتحوَّل بنا العالم. فالنواة الأولى للتطوُّر النوعي في المجال العربي والإسلامي اليوم، هي في تغيير الذات وإزالة رواسب التخلُّف والانحطاط منها. إن تغيير ما بالنفس هو النواة الأولى لعمليات التطوُّر النوعي، وإحداث نقلة عميقة في نمط تعاملنا مع واقعنا ومحيطنا.
فالتحوُّلات الاجتماعية والحضارية في أيِّ مجتمع وأمة لا تُنجز إلَّا على قاعدة تغيير ذاتي عميق، يُزيل ركام الانحطاط، ويُهيِّئ النفوس والعقول لاحتضان وممارسة متطلَّبات التحوُّلات الاجتماعية والحضارية المطلوبة.
وعلى قاعدة التغيير الذاتي المستديم تأتي أهمية الإرادة الإنسانية التي هي وسيلة الانتقال من الوعد إلى الإنجاز، ومن القول إلى الفعل.
والإرادة هنا تعني وبكل بساطة: أن تطوُّر الشعوب والأمم لا يقوم به الغير، وإنما كسب الأمة ذاتها هو الذي يُحقق التطوُّر، فعمل الأمة وسعيها المتواصل، وجهدها المستديم، وتصميمها القوي، وإيمانها العميق بمسارها الحضاري، وتضحياتها في هذا السبيل، كل هذا هو الذي يصنع التطوُّر والتقدُّم.
فإرادة الإنسان هي الفيصل، وهي محل المراهنة الحقيقية على مشروعات التقدُّم والتطوُّر.
فلنغُيِّر ذواتنا، ونُغذِّي هذا التغيير بإرادة إنسانية تأخذ على عاتقها إنجاز التطلُّعات وتحقيق الطموحات.
وسنبقى بعيداً عن كل إنجاز اجتماعي وحضاري مادامت قيم التخلُّف وتصوُّرات الانحطاط تتحكَّم في عقولنا ومسارنا العام.
فلكي نتقدَّم نحن بحاجة إلى تغيير نفوسنا وتنقية عقولنا من ركام التخلُّف والانحطاط، وإلى إرادة إنسانية تأخذ على عاتقها -بالنفس الجديدة والعقل الجديد- صنع وقائع الحياة المعاصرة.
ودائماً التقدُّم الإنساني والتطوُّر الحضاري بحاجة إلى إرادة إنسانية صلبة، تأخذ على عاتقها ترجمة الآمال، وإنجاز الوعود، وخلق الوقائع والحقائق المفضية إلى التقدُّم بكل صوره وأشكاله.
وينبغي أن نُدرك في هذا المجال، أن استعارة سلع التقدُّم والتطوُّر لا يفضي إلى المفهوم الحقيقي للتقدم الحضاري، وإنما يُؤدِّي إلى حالة من التجاور العجائبي والتعايش المتغاير بين سلع التقدُّم ومنجزات التطوُّر وممارسة إنسانية لا ترقى إلى المستوى المطلوب في التعامل مع منجزات العصر الحديث.
إن بوابة التقدُّم الحقيقي هي تغيير الذات المصحوب بإرادة إنسانية تُحيل الطموحات إلى حقائق، والآمال إلى وقائع، والأرض اليابسة إلى أرض خصبة خضراء، تُثمر كل الخير والإنجاز إلى الإنسان حاضراً ومستقبلاً.