جذور الأزمة.. سياسة الهجرة المتشددة
في مساء يوم الجمعة، شهدت شوارع لوس أنجلس سلسلة من المداهمات أدت إلى احتجاز أكثر من أربعين شخصًا، الأمر الذي أثار ردود أفعال جماهيرية فورية. وسرعان ما تحولت المسيرات الاحتجاجية السلمية إلى مواجهات عنيفة، إذ لجأت قوات الشرطة إلى استخدام قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق التجمعات، وسط تبادل التصريحات الحادة بين الأطراف المختلفة. وقد اعتُبرت هذه الأحداث الشرارة التي أدت إلى تأجُّج غضب المواطنين، الذين شعروا بأن حقوقهم الأساسية تُستَهدف وتُجرّم في ظل السياسات التي تُعاملهم كما يُعامل المجرمون.
ردود الأفعال المؤسسية والسياسية
لم يقتصر الأمر على الاشتباكات بين المتظاهرين والشرطة فحسب، بل تداخلت ردود الأفعال الرسمية من جهاتٍ عدة:
الإدارة الفدرالية والجهات الأمنية
وصف مسؤولو البيت الأبيض أحداث يوم الجمعة بأنها «هجوم عنيف على مسؤولي الهجرة»، مشيرين إلى أن ذلك جاء نتيجةً لمحاولات سياسية لتشويه صورة إدارة الهجرة والجمارك. وفي ظل تصاعد الفوضى، قرر ترامب إصدار مذكرة رئاسية بنشر ألفي عنصر من قوات الحرس الوطني، داعيًا إلى ضرورة استعمال هذه الخطوة لمعالجة «الفوضى المتفاقمة». كما أصدرت الإدارة تعليمات بمنع ارتداء الأقنعة خلال الاحتجاجات بهدف الكشف عن هوية المتظاهرين، مما أثار تساؤلات حول تجاوز حدود السلطة التنفيذية.
المسؤولون المحليون والديمقراطيون
لم تقتصر ردود الفعل على المستوى الفدرالي، إذ عبَّر حاكم كاليفورنيا، جافين نيوسوم، وعمدة لوس أنجلوس عن استيائهما الشديد من التدخل الفدرالي، معتبرين أن هذه الخطوة تُعدُّ تعديًا على سيادة الولاية. ووصف المسؤولون المحليون هذا القرار بأنه محاولة لخلق «مشهد دراماتيكي» يستغل لأغراض سياسية، ودعوا إلى إعادة السيطرة كاملةً إلى الجهات المحلية. كما واجهت السلطات الديمقراطية عرقلةً في أداء مهامها الرقابية، إثر منع أعضاء الكونغرس من زيارة مراكز احتجاز المهاجرين.
ردود فعل النقابات والعمال
ازدادت حدة التوترات بعد اعتقال ديفيد هويرتا، رئيس نقابة عمال الخدمات الدولية، الذي تعرَّض لإصابات أثناء اعتقاله وأُدخل المستشفى لفترة قصيرة. وقد أدانت النقابات والمنظمات العمالية هذه الإجراءات، وأطلقت حملات احتجاجية للمطالبة بالإفراج الفوري عنه، مؤكدين أن ما يحدث لا يعدُّ مجرد إجراء أمني، بل يُعكس معاملة غير عادلة للفئات العاملة والشعبية.
صراع سيادي بين الفدرالية والمحلية
مع استمرار الأحداث وتفاقم حدة الاشتباكات، برزت تساؤلات حول مدى صلاحيات الإدارة الفدرالية في تطبيق قوانين الهجرة واستخدام القوة العسكرية في الشؤون الداخلية. إذ أصبح الملف القانوني يتضمن إمكانية اللجوء إلى قوانين العصيان القديمة التي تعود لعام 1807، مما قد يؤدي إلى اندلاع نزاعات قانونية حادة بين الحكومة الفدرالية والولايات ذات السيادة، في ظل نظام اتحادي تعتبر فيه الحقوق والسلطات المحلية جزءاً لا يتجزأ من الهوية الوطنية.
ترامب وتصعيد العنف؛ عندما يُصبح الجيش لاعبًا في السياسة الداخلية
تشكل خطوة إدارة ترامب بإدخال قوات الحرس الوطني في الشؤون السياسية المحلية وتكليفها بمهام إنفاذ القانون مخاطرة بالغة. فزيادة عسكرة الوضع في ظل التوترات القائمة تزيد من احتمالات تعرض المدنيين للأذى وتؤدي إلى تدهور العلاقة التقليدية بين القوات العسكرية والمجتمع المدني بشكل يصعب استعادته. وفي هذا السياق، أشار الكاتب «نيك تورس» في مقالته المنشورة على موقع «ذا انترسبت» إلى أن الحملة التي شنتها قوات الحرس الوطني في عام 1970 ضد المتظاهرين المناهضين للحرب في منطقة كينت بولاية أوهايو تُعد مثالًا صارخًا على المخاطر الناجمة عن إدخال الجيش في تطبيق القانون في الشؤون المدنية.
كما تضمن المقال إشارة إلى أن الرئيس آنذاك، ريتشارد نيكسون، قام بتوسيع نزاع حرب فيتنام باجتياح كمبوديا المجاورة، مما دفع المظاهرات الاحتجاجية إلى ذروتها وأدى إلى موجة من أعمال التخريب، استدعت ردًا حازمًا من السلطات؛ حيث اضطُر حاكم أوهايو، جيمس رودس، إلى نشر قوات الحرس الوطني التابعة للولاية. وفي الرابع من مايو عام 1970، افتتحت القوات النار على المتظاهرين المناهضين للحرب في حرم جامعة كينت الحكومية، ما أسفر عن مقتل أربعة طلاب، فيما وصف الكاتب الاضطراب الذي أعقب ذلك بأنه غير مسبوق في تاريخ أمريكا، إذ شارك أكثر من مليون طالب في إضراب وطني شمل 450 كلية جامعة، وتجمعت تظاهرات جماهيرية في حوالي 90٪ من الحرم الجامعي، إلى جانب حادثة جامعة «جاكسون ستيت» في ولاية ميسيسيبي، حيث أدت اشتباكات الشرطة إلى مقتل طالبين.
وأخيرًا، يؤكد الكاتب أن تفعيل ترامب لقوات الحرس الوطني في كاليفورنيا دون استجابةً لطلب من حاكم الولاية يعتبر الأول من نوعه منذ عام 1965، حينما أرسل الرئيس ليندون جونسون قواته إلى ولاية ألاباما لحماية المتظاهرين خلال حراك الحقوق المدنية.
كما يشير بعض المحللين إلى أن قرار زج الجيش في مواجهة الاحتجاجات ليس مجرد رد فعل تجاه الاضطرابات، بل يُعدُّ جزءًا من استراتيجية سياسية يُستَغل عبرها تبرير استخدام القوة العسكرية لتحييد قضايا داخلية حساسة. وتُحْدِثُ مثل هذه الإجراءات مخاطر جسيمة تتمثل في:
تآكل الثقة بين المواطنين والقوات المسلحة
يُخشى أن يؤدي استخدام القوى العسكرية لمواجهة مظاهرات أهلية إلى إضعاف العلاقة التقليدية بين الجيش والمدنيين، إذ يُنظر إلى الجيش على أنه كيان محايد يجب ألا يدخل في السياسة الداخلية.
تصعيد العنف وتفجير الأزمة
قد يكون نشر قوات الحرس الوطني بمثابة حافز لتصاعد أعمال العنف، خاصةً إذا شعرت الفئات المحتجة بأنهم مُستهدفون بشكلٍ ممنهج، مما يؤدي إلى دائرة لا تنتهي من الاعتداءات والردود المسلحة.
التداعيات القانونية والدوامة الحقوقية
يُثير هذا الإجراء تساؤلات حول مدى دستورية استخدام القوات العسكرية في قضايا داخلية، وهو ما قد يدفع السلطات المحلية لرفع دعاوى قضائية ضد الإدارة الفدرالية، كما فعل حاكم كاليفورنيا سابقًا، معتبرًا هذا التدخل «تعديًا صارخًا على سيادة الولاية».
تُعد الأزمة الراهنة في كاليفورنيا جزءاً من معركة أوسع بين السياسات الفدرالية القمعية والمطالب الشعبية بالنضال من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. إن استخدام الحكومة الفدرالية لوسائل مثل نشر قوات الحرس الوطني وفرض قيود على الاحتجاجات، يأتي في سياق محاولات لفرض سياسات صارمة على حساب سيادة الولايات وحقوق الإنسان.