علي متقيان*
كان الطقس على الطريق حاراً وقاسياً.
كانت القوافل قد غادرت إلى وطنها بعد أداء فريضة الحج.
هذا العام قاموا بأداء حج مختلف.. مع رسول الله(ص)..
بعيدا عن الحذف والإضافات الجاهلية.. حج إبراهيمي..
في حج هذا العام، تم إلغاء جميع الإمتيازات العرقية والقبلية.
لم يكن هناك تمييز بين حجاج قريش والقبائل الأخرى.
تم إلغاء جميع القوانين والقرارت التي وضعوها.
حتى احتكار شراء ملابس الإحرام من قبيلة معينة تم رفعه.
إنتقلوا جميعاً من المسجد الحرام إلى وادي المعرفة في ثوب إحرام موحد.
كان الجميع حاضرين في عرفات، في يوم عرفة مع النبي (ص) دون تمييز.
ووقفوا جميعاً معاً في وادي مشعر الحرام، وتسلحوا مع رسول الله، لكي يذهبوا غداً بالسلاح إلى حرب الشيطان، ليسحقوا الروح الشريرة من الداخل والخارج. فأمضَوا الليل في صحراء قاحلة بلا مأوى، وصلّوا صلاة الفجر، منتظرين الأمر بالإنتقال إلى أرض التضحية بالنفس.
صدر الأمر بالتحرك، سواءً بعد صلاة الفجر أو عند شروق الشمس.
المهم هو طاعة الأمر الإلهي بموافقة رسول الله(ص). المهم أن تكون عبد الله مطيعاً لرسول الله، لا تسبق رسول الله ولا تتراجع عن أمره.
صدر الأمر بالتحرك.. انطلق الجميع نحو أرض الأحلام.
أرضٌ يجب محاربة الشيطان فيها بحزم بأسلحة مُعدّة مُسبقاً، وإبعاد الشيطان من الداخل والخارج، والشيطان المطرود من عند الله، بنية التقرّب إلى الله.
عندما تطرد الشيطان الأكبر عنك إلى جانب رسول الله(ص) وفي مسار موافقة رسول الله (ص) سيُسمح لك، بختم موافقة نبي الله(ص)، بالذهاب إلى المذبح الذي أُعدّ ليقوم الجد الأكبر لرسول الله(ص)، إطاعة للأمر الإلهي بتضحية إبنه الذي رزقه الله تعالى بعد زمن طويل في سبيل الله، الابن الذي كان صبوراً في اتجاه الأمر الإلهي، ويقدّم حلاً لوالده قائلاً: أطِع أمر الله وأنا صبور.
في هذه الأرض، ضحى الأب بابنه إبتغاء مرضاة الله، وضحى الإبن بحياته إمتثالاً لأمر الله. وهنا جاءت “وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ”!
ما هو الذبح العظيم؟
هل كان وزن الخروف السماوي مساوياً لوزن الطفل الذي أخذه أبوه إلى المذبح ووضع سكيناً على رقبته طاعةً لأمر الله؟
هل نحن متأكدون من وجود سِر آخر؟
يجب أن يبقى ذبيح الله ويستمر نسله حتى يأتي آخر نبي من هذا الجيل ويعزز هذه الحركة. وبإذن من النبي محمد(ص) من نسل ذبيح الله، ذبح الحجاج أضحيتهم رضاً لله الواحد الأحد، وسمح لهم بالتضحية برؤوسهم في سبيل الله. عندما تُهدي شعرةً، فأنت تُظهر طاعةً وعبوديةً.
أنت مستعدٌّ لتقديم رأسك بوقته وفي مكانه. كل ما نملكه ملكٌ له، ويجب أن تُؤتمن الأمانة على صاحبها الشرعي.
في هذا الحج، تشابهت أفعال الجميع، ولم يكن هناك فضلٌ لأمة على أخرى.
والوقوف في منى مع النبي(ص) مشهدٌ لا يُنسى. ويقف الجميع مع النبي (ص) في اليومين الحادي عشر والثاني عشر، ويخوضون حرباً مع الشيطان على ثلاث مراحل كل يوم، ويجلسون في العقبة بمنى ليستمعوا إلى كلام النبي(ص) وتوجيهاته.
تم الانتهاء من أعمال منى، وصدر الإذن بمغادرة منى إلى مكة من قبل النبي(ص)، والجميع يتجه نحو الكعبة، لإتمام مناسك الحج مع رسول الله(ص) كما شرع.
تم الانتهاء من الحج وبقيت الأعمال التي قام بها النبي(ص) وختم عليه بالتأييد لمسلمي العالم، وفي كل عام ينطلق ملايين العشّاق لطي طريق الحج من جميع أنحاء العالم لإكمال مناسك الحج الإبراهيمي الذي وافق عليه رسول الله(ص).
وقد تم توقيع الحج الذي كان بمثابة تذكار لإبراهيم وإسماعيل(ع) على يد النبي(ص) وأصبح شرعياً للحج الإبراهيمي والإسماعيلي من قبل أتباع دين النبي الخاتم.
وبعد أن أتم الحجاج مناسك الحج الإبراهيمي عزموا على العودة إلى ديارهم والتوجه نحو وطنهم.
الحج الذي بدأوه مع رسول الله(ص)، واكتملت مناسك حج التمتع، بإتمام أعمال الحج الإبراهيمي، وبعد وداع الكعبة، انطلق الحجاج إلى أوطانهم وديارهم.
وفي شدة الحر وصلوا إلى مكان اضطر الحجاج فيه إلى تغيير طريقهم، ولم يتمكنوا من الإستمرار في مرافقة النبي(ص).
عند هذا المفترق، على كلٍّ أن يختار طريقه: إما اليمن، أو العراق، أو المدينة المنورة، أو بلاد الشام، هنا، لا بدّ من اختيار طريق للوصول إلى الهدف.
لكن عند هذا المفترق، رُسمت معالم المستقبل. مسارٌ نادر لم يفكّروا فيه، ولو كانت لديهم أي مشاعر تجاهه، لما تحدّثوا عنه.
في هذا الطريق، نُقل أمرٌ ثمينٌ للغاية، بمقارنةٍ أصعب.
“بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ”، أمرٌ إلهيٌّ، ويجب تبليغه. أيّ تبليغ؟!! تبليغ “وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ”.
يا لها من رسالة، يُعادل تنفيذها ثلاثة وعشرين عاماً من المعاناة والمشقة! ثلاثة عشر عاماً من العُسر والمقاومة في مكة، والهجرة، وترك الوطن، والجهاد والدفاع، والهزيمة والنصر، والشهادة في سبيل الله.
يا لها من مقارنة صعبة. إبلاغٌ وعملٌ لأمر الله يُعادلان ثلاثة وعشرين عاماً من العمل الشاق والمضني.
يجب الطاعة. لقد حدث أمرٌ هام!
يومٌ واحدٌ بدل ثلاثةٍ وعشرين عاماً! ويجب أن نعتبر تأثير هذا الإعلان والاهتمام به معادلاً لعصر البعثة بأكمله.
هناك نقطة أخرى: “وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ”، هناك أيضاً ضمان لتنفيذ هذا الإعلان! ما هذا الضمان؟! سنعصمك من الناس. لماذا نعصمك من الناس؟
إن الناس الذين كانوا مع رسول الله (ص) في هذه الفترة كانوا مطيعين إلى درجة أنهم اعتبروا طاعة الرسول طاعة لله حقاً، ولديهم إيمان كامل، وما هو الذي جاء في الآية الكريمة، من أي أناس يعصمك الله؟
قليل من الصبر مطلوب. يأمر النبي(ص) بالتوقف. فليعود من ذهب، وليصل من لم يصل، وليجتمع الحاضرون، يا له من شيء مهم حدث، في هذه الصحراء، بجوار نهر، على مفترق طرق.
لقد حان وقت الصلاة، قام الجميع للصلاة، بإمامة رسول الله(ص)، بعد أداء الفريضة، يجب تنفيذ أمر واجب.
كان الجميع ينتظرون سبب التوقف، وأن يُبلغهم أمر رسول الله(ص).
بأمر النبي(ص)، تم إحداث منصة رفيعة من جهاز الإبل. وقف النبي(ص) على القمة، ليتمكن جميع الحجاج الذين أدوا الحج تحت إمرته من رؤيته.
ألقى النبي (ص) خطبةً عجيبة. بعد أن حمد الله وأثنى عليه، أشار إلى الأمر الإلهي: “يا أَيُّهَا الرَّسولُ بَلِّغ ما أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَبِّكَ”. لديّ رسالة من الله أن أبلغكم بها جميعاً.
ثم ألقى على الناس خطبةً مُفصّلةً، قال فيها: “ما قصّرت في تبليغ ما أنزل الله إليّ”.
أيها الناس، لم أُقصِّر في تبليغكم ما أنزل الله عليَّ، وقد حاجَّ الحاضرين في هذه الرسالة حاجَّةً كافيةً، ولقي جواباً مقبولاً.
ثم رفع يدي علي بن أبي طالب(ع) وقال: “مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ.”
“مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيٌّ مَوْلَاهُ”، ثم نقل الولاية إلى علي(ع)، ثم بدأ يدعو قائلاً: “اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ”.
وتابع النبي(ص) خطبته على النحو التالي: “مَعاشِرَ النّاسِ، هذا عَلِي أخي وَ وَصیي وَ واعي عِلْمي، وَخَلیفَتي في اُمَّتي عَلی مَنْ آمَنَ بي وَعَلی تَفْسیرِ کتابِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَالدّاعي إِلَیهِ”، ثم تطرق إلى واجبات الإمامة وقال: “إِنَّما أَکمَلَ الله عَزَّوَجَلَّ دینَکمْ بِإِمامَتِهِ”.
في جزء آخر من الخطبة، قال: “هذا عَلِي، أَنْصَرُکمْ لي وَأَحَقُّکمْ بي وَأَقْرَبُکمْ إِلَي وَأَعَزُّکمْ عَلَيّ”.
وفي مكان آخر، قال: “إِنّي قَدْ بَینْتُ لَکمْ وَأَفْهَمْتُکمْ، وَهذا عَلِي یفْهِمُکمْ بَعْدي”.
“أَلا وَإِنِّي عِنْدَ انْقِضاءِ خُطْبَتي أَدْعُوکمْ إِلی مُصافَقَتي عَلی بَیعَتِهِ وَالإِقْرارِ بِهِ، ثُمَّ مُصافَقَتِهِ بَعْدي. أَلا وَإِنَّي قَدْ بایعْتُ الله وَعَلِي قَدْ بايعني”.
اعلموا أني قد عقدت عهداً مع الله وعلياً معي، وأنا آخذ عهد الله تعالى على إمامته.
وبعد الخطبة بايع كل حاج، وكان شيوخ الصحابة أول من هنأ الإمام علياً(ع) بإمامته وأمير المؤمنين(ع)، فقبلوه، واكتمل الدين النبوي بنزول آیة “الْیوْمَ أَکمَلْتُ لَکمْ دینَکمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَیکمْ نِعْمَتي وَ رَضیتُ لَکمُ الْإِسْلامَ دیناً” .
انتهت المراسم، وتوجه كل منهم إلى مدينته، حاملين رسالتين مميزتين: إحداهما أداء مناسك الحج التي علّمهم إياها النبي (ص) فأصبحوا قدوة في أداء الحج، والأخرى انتخاب أميرالمؤمنين علي(ع) لولاية رسول الله(ص) وخلافته في مراسم “غدير خم”.
كانت كلتا الرسالتين امتثالاً لأمر الله وتبليغاً لرسوله(ص)، ولا تزالان باقيتين، وبركاتهما مستمرة. إحداهما سُميت حج الوداع، والأخرى عيد الغدير وعيد الله الأكبر.
في هذه المراسم، أُعلنت للحجاج ولاية أمير المؤمنين علي(ع) وخلافته، وأُبلغ جميع الحاضرين من مختلف الجنسيات بإعلان الأمر الإلهي، الذي كان على مستوى الرسالة.
وفهموا من كلام رسول الله (ص) أن إعلان ولاية علي (ع) وخلافته كان أمراً إلهياً أعلنه النبي(ص) في هذا الحر الشديد، وتحققت فيه كلمات الحق في القرآن الكريم: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً”.
* مديرعام مؤسسة إيران الثقافية والإعلامية