في لحظة تكريم رياضية قبل 52 عاماً، اعتمر الأسطورة البرازيلية الراحل بيليه القبّعة المكسيكية عند تتويج فريقه بطلاً للنسخة التاسعة من كأس العالم، باعتبار ذلك جزءاً لا يتجزّأ من ثقافة البلد المنظّم للبطولة آنذاك، في حين لاقت هذه الخطوة حينها ترحيباً واسعاً باعتبارها “تبادلاً ثقافياً وترسيخاً للتنوّع”.
بعد ذلك، بـ43 عاماً، ارتدى الأسطورة الأرجنتيني الراحل دييغو مارادونا البرنوس الأمازيغي، خلال زيارته الوحيدة إلى الجزائر في العام 2013. وبعد ذلك بسنوات، وفي لحظة تكريم مماثلة، وضع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني “البشت” الخليجي التقليدي على أكتاف قائد الفريق الأرجنتيني ليونيل ميسي، غير أن الغرب لم يكن راضياً، وذهب إعلامه بعيداً باعتبار الخطوة “استغلالاً سياسياً”.
هجمة غربية على “البشت”
“ما جرى بعد ارتداء ميسي للبشت العربي عرّى المزاعم الغربية بالتعايش وتقبّل الآخر”، يقول الشاب محمد عبد الله أن هذا اللباس التقليدي رمز للأصالة والوجاهة.
حديث محمد يأتي تعليقاً على الهجمة الشرسة التي شنّها الإعلام الغربي على تكريم قائد فريق الأرجنتين في مونديال قطر، والذي وصف اللحظة الرياضية السحرية “بالمؤسفة وبالمخالفة للوائح الاتحاد الدولي لكرة القدم”.
وكالة ميرور البريطانية اعتبرت أنه تم إجبار ليونيل ميسي على تغطية قميص الأرجنتين برداء أسود وذهبي، عندما كان يرفع كأس العالم، مستعرضة تعليقاً للمذيع الرياضي غاري لينيكر أبدى فيه استياءه من الخطوة، وقال إنه “يبدو من العار، بطريقة ما، أنهم قاموا بإخفاء قميص الأرجنتين الذي يرتديه”. وبينما وضعت صحيفة “دايلي ميل” الخطوة في إطار “سرقة أضواء الملاعب”، ووصفت مضيفي مونديال قطر بالأنانيين، نقلت صحيفة “الغارديان” تصريح لاعب الأرجنتين السابق بابلو زاباليتا: “لماذا؟ لا سبب لجعل ميسي يرتدي هذا الزي”.
مؤرِّخ: العلماء المسلمون هم أوّل من استخدم ثوب التخرّج
هذه الحملة الإعلامية الغربية استدعت ردّاً من مساعدة وزير الخارجية القطري لولوة الخاطر عبر حسابها في تويتر، معتبرة أن ما يجري “حالة من السعار انتابت إعلاميين أوروبيين كثر وهم يمارسون عقدتهم الاستعلائية على ثقافات العالم”، ومؤكدة من جهة أخرى أن الأوروبيين “يمارسون هذا الطقس في كل حفلات التخرج، وهو تقليد عربي بدأ في جامعة القرويين التي أسستها فاطمة الفهري عام 859”.
تغريدة المسؤولة القطرية أعادت إلى الواجهة الأصول العربية لثوب التخرج، التي يؤكدها كذلك المؤرّخ حسّان حلاق ، باعتبار أن “فكرة ثوب التخرج التي لا يزال معمولاً بها منذ مئات السنين، هي فكرة عربية إسلامية أندلسية، وانتقلت فيما بعد من الأندلس إلى المغرب العربي، ثم إلى المشرق العربي، حتى وصلت نتيجة التفاعل الحضاري والعلمي إلى مدن وبلدات ومعاهد وجامعات أوروبا”.
ويشير حلاق إلى أنه “من المعروف أن الكثير من الشعوب سواء في الشرق والغرب، لبسوا رداءً طويلاً، حتى قبل أن يكتشف المصمم الأجنبي البنطال”، موضحاً أن “في الشرق، كان هناك ما يعرف باللباس العربي، ثم اللباس العثماني”، وأن “العالم العربي عرف ألبسة متعددة ومتنوعة الأشكال استناداً إلى التقاليد والعادات المعروفة”، وأول من استخدم ما أسماه بـ “روب التخرج” العلماء المسلمون في الأندلس، فعند تخرّج أي طالب على أيدي علماء الأندلس وجامعاتها ومعاهدها العربية والإسلامية الكبرى، كان الجميع يرتدي زياً موحّداً في احتفال مهيب، يحضره الأمراء والعلماء وأحياناً الملوك أو الخلفاء أو السلاطين، وكانوا أحياناً يضعون على رؤوسهم قبّعة عليها القرآن الكريم، لأن العلماء في تلك الفترة كانوا يعتمدون في دراساتهم على الفقه الإسلامي إضافة إلى العلوم الحديثة التي لا تتناقض مع العلوم الدينية أو الفكر الديني.
ثوب التخرّج “بشت عربي”؟
ووفق المؤرّخ حلّاق، فإن الجميع يعلم بأن أوروبا الغربية استفادت كثيراً من علماء المسلمين في مختلف العلوم ونقلتها إليها، مثل الفيزياء والكيمياء والرياضيات، في حين استحسن العلماء هناك لباس التخرج باعتباره ثوباً موحّداً، حتى أن بعض المعاهد والجامعات الأوروبية كانت تضع الإنجيل المقدّس فوق قبّعة خرّيجيها.
من جهته، يجزم الباحث في التاريخ الأندلسي أسامة خضر أن :”الأندلس بات من أكبر الأساتذة للمشرق بعد أن كان تلميذاً على يديه، ولم يكن فيه أمّيّ واحد، والمناصب العلمية التي كانت تحتاج إلى أزياء خاصة هي أندلسية، كما هو الحال في ثوب التخرج”.
ويؤكد خضر أن “ثوب التخرّج عربيّ الأصل، وكان طلاب جامعات الأندلس يرتدونه ويعتمرون القبّعة المربّعة، حتى أن الطلاب الأجانب الذين كانوا يتابعون تحصيلهم العلمي في تلك الجامعات، ارتدوا عباءات التخرج التي هي في حقيقة الأمر بشت عربي، وكان الأوروبيون يفتخرون بارتدائها باعتبارها دليل على التميّز”.
علامة للوجاهة العلمية.. ببصمة عربيةفي كتابه “الإسلام في أوروبا”، أفرد أشهر أساتذة الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة كامبريدج، المؤرّخ والمؤلّف الراحل جاك غودي، مساحة خاصة للحديث عن عباءة التخرّج، قائلاً إن “الطلاب الأوروبيين الذين كانوا ينهلون من علوم الجامعات التي أسسها المسلمون، يعودون إلى بلدانهم وهم يلبسون العباءة العربية، كإشعار بأن من يرتدي هذا اللباس قد تخرج من جامعات المسلمين”، ويؤكد أن “اللباس العربي أضحى علامةً للوجاهة العلمية حتى اليوم، سيما في المناسبات العلمية، كمناقشة الرسائل الجامعية، وحفلات التخرج التي يلبس فيها الأساتذة والطلاب العباءة والعمامة، وكان إمبراطور النورمان في صقلية روجيه الثاني يلبس ثوباً عربياً في بلاطه، ويتكلم العربية، ويعلم الفنون والعلوم العربية”.
من جهة ثانية، يقول مؤرّخون آخرون إن الطقوس الأكاديمية المتعلّقة بالتخرّج بدأت مع تشكّل الجامعات لأول مرة في أوروبا القديمة، في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إذ كان الأساتذة والطلاب يرتدون ملابس القساوسة والرهبان ورجال الدين نظراً للتأثير الكبير للكنيسة آنذاك.. بينما تحدّثت مجلة “تايم” الأميركية عن أن الغرض من ارتداء المتعلّمين الأثواب الطويلة التي غالباً ما تكون سوداء أو بينّية اللون، وأغطية الرأس هو الحصول على الدفء، خصوصاً وأن مباني التدريس والجامعات قديماً كانت تفتقر لأنظمة التدفئة.