"فارس" الرومانسية..

سيرة الكتابة عند يوسف السباعي

اغتيل في قبرص وتأثر مبكراً بتوفيق الحكيم وستيفان زفايغ... كيف أصبح يوسف السباعي "فارس القصة"؟

2023-02-20

“إرهابيان يقتحمان قاعة اجتماعات مؤتمر التضامن، ويطلقان 3 رصاصات تصيب السباعي في رأسه”.. كتبت الصحف المصرية في صدر صفحاتها الأولى، وثار الشارع بالتكهنات حول من اغتال الأديب المصري يوسف السباعي، وقد تكشف في ما بعد أنهما متطرفان.

كان اغتيال يوسف السباعي في قبرص، صباح 18 شباط/فبراير عام 1978، في أثناء حضوره مؤتمراً آسيوياً أفريقياً للتضامن مع فلسطين، أشبه بفصل أخير في رواية لم يكتبها، ذلك لأنه عاش أديباً رقيقاً، عرف عنه رومانسيته وانشغاله بقضايا الإنسان، لا قصص القتل وترويع الآمنين بقنابل يدوية منزوعة الفتيل.

عاش السباعي حياة ثرية، بأوجه عدة، أحدها أنه كان ضابطاً في الجيش المصري، تولّى العديد من المناصب، وتدرج حتى وصل إلى رتبة عميد، وقد تناول كثيرون أوجهاً من سيرته. حتى أن حياته قدمت في مسلسل تلفزيوني عام 2003، لكن ثمة وجه ضمن له الخلود، هو حياته الأدبية، التي عاشت بعد موت صاحبها، فللكتابة سيرة أخرى، ولدت طفلة ثم كبرت معه.

ولد يوسف محمد السباعي في 17 حزيران/يونيو عام 1917، وكأي شيء ولدت الكتابة طفلة. بدأت معه تأثراً بوالده محمد السباعي، الأديب والمترجم الذي عرف عنه تعمقه في الآداب العربية شعرها ونثرها، وأيضاً تعمقه في الفلسفات الأوروبية الحديثة، إلى جانب إتقانه اللغة الإنكليزية.

صنع أول مجلة في مطبعة “ورق كوتشينة”

يوسف هو الأخ الأكبر بين أشقائه، كان الأقرب لوالده. يحكي الكاتب الصحفي لمعي المطيعي، أن السباعي الوالد “كان يرسل ابنه بأصول المقالات إلى المطابع؛ ليتم جمعها أو صفها على حد تعبير الشوام، ثم يعود بها ليتم تصحيحها، وبعدها الطباعة لتصدر للناس”.

تأثر يوسف في سن مبكرة بكاتبين آخرين؛ الأول المصري توفيق الحكيم، والآخر هو النمساوي ستيفان زفايغ. لكنه بقي أسير الإعجاب بما يكتبه والده، فحسب قوله في سهرة تلفزيونية مع أماني ناشد، تأثر به لجمال الأسلوب، ولأن كلامه كان له رنين موسيقي، مرجعاً تأثره الشديد لسببين؛ أولهما هو الرابط الإنساني الذي يدفع الابن إلى أن يعجب بما يفعله أبوه، والثاني “لأفكاره الإنسانية وسخريته”.

متى ولدت الكتابة؟ ومتى نمت أطرافها وتشكلت ملامحها؟ يحكي السباعي أنه بعد موت الوالد، انتقلت الأسرة من منطقة السيدة زينب (ع) إلى حي شبرا. وقد كان له صديق في مدرسة الخديوي إسماعيل بالسيدة زينب، أرادا ألا تنقطع علاقتهما، ومن ثم راحا يكتبان الرسائل لبعضهما، ثم تطور الأمر، وأعد له مجلة مكتملة، كتب فيها القصص والنكات.

يقول السباعي في سهرة تلفزيونية، إنه كان يصنع لمجلته غلافاً في مطبعة لـ “ورق الكوتشينة” (ورق اللعب) في حي روض الفرج. كان يذهب إليها ليجمع من على أبوابها أوراق دشت يختبرون فيها الأحبار، ليصنع منها مجلات في حجم روايات الجيب، ثم يضعها في مغلّف ويرسلها لصديقه.

تطور الأمر بالنسبة إلى التلميذ يوسف محمد السباعي، فلما كان يجيد الرسم أيضاً، بدأ يعد مجلة أخرى يكتبها ويرسمها، تحولت إلى مجلة المدرسة؛ بعد أن نالت إعجاب إدارتها، فأصبحت تصدر باسم (مجلة مدرسة شبرا الثانوية)، والتي يؤكد الصحفي لمعي المطيعي، أنه “نشر فيها أول قصة يكتبها بعنوان “فوق الأنواء” عام 1931، وكان عمره 17 عاماً، والتي أعاد نشرها في ما بعد في مجموعته القصصية (أطياف) 1946″.

القصة التي نشرها التلميذ يوسف السباعي في مجلة المدرسة الثانوية؛ كبرت ونمت حتى صارت 22 مجموعة قصصية، كتبها على امتداد سنوات حياته. أيضاً الطفل الذي بدأ العمل الصحفي بتحرير مجلته المدرسية؛ ترقى حتى شغل مناصب أخرى؛ منها: رئيس مجلس إدارة مؤسسة روز اليوسف، ورئيس تحرير مجلة آخر ساعة، ورئيس تحرير صحيفة “الأهرام”، كما اختير نقيباً للصحفيين عام 1977. أما صاحبه الذي قاسمه كتابة الرسائل؛ فربما توقف عند مرحلة الطفولة، فحسب السباعي لما التقى به كبيراً وجده يعمل معاون بريد.

“الفكرة نطفة تتخلق في رأس الكاتب”

بخلاف المجموعات القصصية، كتب يوسف السباعي عدداً من الأعمال الروائية. قال إن “نائب عزرائيل” هي أول قصة طويلة يكتبها. كان يكتب وقتها مسامرات الجيب في جريدة “الكتلة” لكنه شعر بأن القصة القصيرة تجعله يتحرك في نطاق أضيق مما يسعى إليه، لا سيما بعدما قال له إبراهيم المازني، إن القصة القصيرة بمنزلة “عملية إجهاض”.

حكى السباعي كواليس كتابة “إني راحلة”. قال إنه كتبها في أثناء إجازة له بالإسكندرية، وقد ظل يكتب قرابة 6 ساعات. كان وقتها لا يزال يكتب بمحبرة وريشة، والتي انسكب حبرها، ولطخ كل شيء، ومن ثم، نصحه من حوله بأن يقتني قلم حبر، الذي دوّن به روايات أخرى، كان من بينها: “رد قلبي”، و”نحن لا نزرع الشوك” وغيرهما.

الكتابة فعل قاس، تختلف طقوسه من كاتب لآخر.. لكن كيف كان يمارسها السباعي؟ كيف كانت تتهادى الفكرة أمامه ومتى يقتنصها؟

يقول السباعي إن: “القصة تأتي دائماً بانفعال، هو بمنزلة نطفة تتخلق في رأس الكاتب،  يحيا بها حتى تصبح قصة مكتملة، قد يحكيها كاملة قبل كتابتها”.

يذكر السباعي أنه قبل كتابته لـ”رد قلبي” قصها كاملة على أنور السادات في مكتبه، وقت كان رئيساً لتحريرها، ليطلب منه الأخير كتابتها مسلسلة، وقبل كتابته قصة “نادية” حكاها كاملة لإحسان عبد القدوس، ثم كتبها بعد تلك الواقعة بعامين.

كذلك، ونتيجة لتأثره بمرض ابنه وعلاجه في لندن، تخمرت في ذهن السباعي قصة “ليل له آخر” ولما حكاها كاملة لـ إحسان عبد القدوس؛ فوجئ في اليوم التالي بإعلان عن كتابتها في “روز اليوسف”، وقد ظل يعلن عنها  لمدة 5 أشهر؛ حتى تمكن من كتابتها.

ظهر أغلب الأعمال التي كتبها السباعي على شاشة السينما. بعضها طبع في شكل كتاب ثم تحول إلى عمل سينمائي، وبعضها الآخر كتب خصيصاً للشاشة. وقد نالت جميعها حظاً كبيراً من النجاح، الذي ربما تحقق لأنه لم يرض بغير الصدق، فهو يرى أن العمل الصادق يترك تأثيره في الكاتب بقدر ما يؤثر في قارئه.

أما في كتابته لـ “نادية”، ولا سيما الفصل الذي تموت فيه بطلة الرواية، فقد بقي لأسبوعين يشعر بثقل الفاجعة، حتى أذن لنفسه بالبكاء، ولما وجدته زوجته يبكي فزعت لذلك، وسألته عن السبب فقال: “بطلة القصة ماتت”، ولما اغتيل السباعي في قبرص؛ ربما بكت مصر؛ لأن يومها مات “فارس القصة”.

 

المصدر: الميادين