في ختام قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي احتضنتها مدينة لاهاي الهولندية، خرج المجتمعون بإعلان تاريخي يقضي برفع سقف الإنفاق الدفاعي لدول الحلف إلى 5% من ناتجها المحلي الإجمالي، وذلك بحلول عام 2035. هذا التحوّل النوعي أتى بدفع أميركي مكثف من دونالد ترامب، الذي لم يتوانَ عن تهديد الحلفاء الأوروبيين وكندا بتحمُّل أعباء إضافية في تكاليف الدفاع عن الغرب، مهدّداً بانسحاب بلاده من الحلف، إنْ هي لم تفعل. وتُمثّل الخطوة المتقدّمة، تحوّلاً كبيراً عن الهدف السابق، والبالغ 2%، والذي لم تلتزم به جميع الدول الأعضاء حتى عام 2024، فيما تثير تساؤلات حول تداعياتها الاقتصادية قبل الجيوسياسية. وهناك من يرى في الإعلان ضرورة إستراتيجية، ومن يعتبره انزلاقًا نحو سباق تسلّح، يبقى التساؤل قائمًا: هل هذا المسار يعزّز الأمن حقًا، أم يضاعف التوترات العالمية؟
خلفيات القرار؛ ابتزاز استراتيجي أم تعزيز أمني؟
بينما غابت الإشارة إلى الحرب الأوكرانية في نص الإعلان، حضر «التهديد الروسي الطويل الأمد» كتبرير أساسي. وكشفت رسائل نصّية بين ترامب وأمين عام الناتو «مارك روته» أن واشنطن ترى القرار انتصارًا شخصيًا لترامب.
وصف مراقبون القرار بأنه أشبه بـ«رشوة سياسية» تهدف إلى تهدئة المخاوف الأميركية من عدم التزام أوروبا بواجبات الدفاع، وأن الضغط الأميركي أشبه بـ«ابتزاز استراتيجي»، لتسويق المزيد من المعدات العسكرية الأميركية.
من تحالف أمني إلى تحول في بُنية الناتو
خطاب «أمريكا أولاً» دفع دول الناتو نحو إعادة تقييم ذاتي لاستراتيجياتها الدفاعية، وربط ترامب بقاء أمريكا في الناتو بزيادة الإنفاق من بقية الأعضاء، هزّ الثوابت السياسية التقليدية للتحالف.
وُصف هذا التحول بـ«نقطة التحول الكبرى» في فهم دور الناتو من مظلة أمنية أمريكية إلى شبكة أمنية متعددة الأقطاب بتمويل أكثر توازناً.
التحول الذي فرضه ترامب ليس مجرد ضغوط سياسية، بل يُنظر إلى القرار كـ «إعادة هيكلة جذرية» لمفهوم المشاركة في العبء العسكري.
المادة الخامسة؛ التزام غامض يثير القلق
ترامب أثار الشكوك علناً بقوله: «هناك تعريفات كثيرة للمادة الخامسة، أليس كذلك؟ وسعى «إعلان لاهاي» إلى تبديد المخاوف الأوروبية بإعادة التأكيد على التزام الحلف بمبدأ الدفاع الجماعي.
فتنصّ المادة الخامسة على أن «الاعتداء على عضو يُعدّ اعتداء على الجميع»، فقد تضمن «إعلان لاهاي» بندًا خاصًا يُعيد التأكيد على الالتزام الراسخ بهذه المادة، بهدف تهدئة المخاوف الأوروبية.
برلين تفتح خزائنها وتُغلق باب التقشف
أعلنت برلين رفع إنفاقها إلى 162 مليار يورو بحلول 2029 وأن المساعدات لأوكرانيا ستبلغ 8.5 مليار يورو سنويًا حتى 2029.
فقد خفّضت الحكومة الألمانية «سقف الدين الدستوري» لفتح المجال لاقتراض تريليون يورو لعقدٍ قادم، ومثّل ذلك ابتعاداً واضحاً عن السياسة المالية الانضباطية التي طالما دافعت عنها برلين، وسيترتّب عليه ارتفاع العجز المالي للدولة الفدرالية بشكلٍ كبير، ناهيك عن تحدّيات بيروقراطية ولوجستية قد تُعيق تحقيق الأهداف، وكذلك معارضة شعبية لزيادة الإنفاق العسكري على حساب الخدمات الاجتماعية، خاصةً أن بعض السياسيين الألمان أعربوا عن قلقهم من أن هدف الـ5% يتطلّب في المحصّلة زيادة هائلة في الضرائب، أو تقليصاً نوعياً في الإنفاق على التعليم والصحة والتقديمات الاجتماعية الأخرى.
بريطانيا.. طائرات بلا خطة
أمّا بريطانيا – التي أعلنت تزامناً مع قمّة لاهاي عن شراء 12 طائرة مقاتلة شبحية من طراز «إف-35 أ» الأميركية الصنع، بغرض تعزيز قدرتها على تحريك القنابل النووية بعدما كانت تعتمد بشكل أساسي على غواصاتها من طراز «ترايدنت» – فقد قرّرت أيضاً الالتزام برفع الإنفاق الدفاعي إلى مستوى الـ5%، بحلول عام 2035، من دون وجود أيّ خطط واضحة لدى حكومة السير «كير ستارمر» حول الصيغة التي سيتمّ عبرها توفير الموازنات اللازمة، في ظلّ الضغوط المالية الحادّة على الصعيد المحلي، وارتفاع تكاليف المعيشة التي يواجهها المواطنون البريطانيون، وعلى الأغلب أنه سيرحّل هذه المعضلة إلى الحكومة التالية، سواء بقي حزبه، «العمل»، في السلطة بتفويض جديد، أو شكّلها آخرون.
توافق سياسي أم انقسام واقعي ؟
ينقسم الهدف الجديد المتمثّل في إنفاق 5% من الناتج المحلّي الإجمالي على الدفاع والأمن بحلول عام 2035، إلى مكونَين: 3.5% لتزويد الجيوش التابعة للحلف بالمعدّات والأسلحة التي تحتاج إليها، و1.5% للإنفاق المتعلّق بالدفاع في مجالات مثل حماية البنية التحتية الحيوية، وتأمين الشبكات، ورفع ماهية الاستعدادات المدنية في مواجهة الحروب، وتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية. ومن شأن هذا التوصيف الواسع، السماح للدول الأعضاء ببعض المرونة في كيفية تحقيقها لهذا الجزء الأصغر من الهدف.
مع ذلك، فإن الوصول إلى هدف الـ3.5% في الإنفاق الدفاعي الأساسي، سيتطلّب جهوداً استثنائية لتوفير التمويل المطلوب في معظم دول «الناتو». ورغم توافق الدول رسميًا، أبدت دول مثل :إسبانيا، سلوفاكيا، بلجيكا ملاحظات وتحفظات، ومن بين 32 عضوًا: 27 دولة دون سقف 3%، ودول أخرى لا تفي حتى بهدف 2% السابق، مما يجعل تنفيذ التعهدات أمرًا يتطلب تغييرات مالية وهيكلية جذرية في معظم الحكومات.
أميركا الرابح الأكبر.. الدولار ينتصر والسلاح يُصدّر
يتوقع ترامب أن يعود القرار بفوائد اقتصادية على الولايات المتحدة من دعم للدولار، انتعاش صادرات السلاح، ترسيخ الهيمنة الجيوسياسية، وستكون الشركات الدفاعية الأميركية أبرز المستفيدين، ويتوقّع ترامب أن تنعكس هذه الزيادة إيجابيّاً على اقتصاد الولايات المتحدة، وقوّة عملتها، وتُعزّز تالياً من هيمنتها على العالم، إذ إن غالبية المعدّات والأسلحة والأنظمة المعتمدة في بيئة «الناتو» القتالية من إنتاج الصناعات الدفاعية الأميركية، وفي حالات أقلّ من شراكات بين مصنّعين أميركيين وأوروبيين، في المقابل، ستدفع أوروبا التكلفة الباهظة وثمن العسكرة وستواجه خيارًا مؤلمًا من رفع الضرائب أو من خفض الإنفاق على الصحة والتعليم ومن تضخم شعبي يلوح في الأفق ورفض متصاعد لسياسات التسلّح على حساب الرفاه.
«إعلان لاهاي» قد يعكس طموحًا مشروعًا لتعزيز دفاع الحلف في ظل عالم غير مستقر، لكنّ خلفياته السياسية والاقتصادية تضعه في موضع تساؤل. فهل الهدف حماية الحلف؟ أم الانصياع لضغوط أميركية؟ وهل سيؤدي إلى أمن حقيقي؟ أم أنه بداية لسباق تسلّح جديد لا يُعرف متى ينتهي؟
هذا الإعلان لا يُعد فقط قرارًا ماليًا، بل إعادة تعريف لمفهوم الأمن الجماعي في ظل عالم متغير، والبعض يراه ضرورة استراتيجية في مواجهة روسيا والصين وآخرون يعتبرونه انصياعًا لضغوط أميركية، وبداية لسباق تسلّح عالمي جديد.
«إعلان لاهاي» ليس مجرّد اتفاق تمويلي، بل إعلان دخول الحلف في عصر ٍجديد يُعاد فيه تعريف الأولويات، وتُرسم فيه حدود الأمن عبر بوابة الاقتصاد السياسي، ويبقى السؤال مفتوحاً: هل يعكس القرار فعلاً حاجة أمنية؟ أم هو إملاء سياسي؟ إلى أي مدى يمكن للمجتمعات الأوروبية تحمل ثمن العسكرة؟ وهل يؤسس هذا الإعلان لبداية سباق تسلّح عالمي جديد تحت عباءة الدفاع الجماعي؟.