لم يكن شهر محرّم هذا العام تكراراً شعائرياً لما مضى، بل تجلٍّ حيّ لرؤية ثقافية موحّدة اتخذت من كربلاء مرآة للمقاومة، ومن الإمام الحسين(ع) نبراساً للهوية. تنوّعت الفعاليات بين الشارع والشاشة، بين المسرح والموكب، لكن صوتاً واحداً تردّد في المدن والبيوت وفضاءات العالم الإفتراضي: “إيران الحسين(ع)… منتصرة إلى الأبد.”
إن المدن الإيرانية تتغيّر ملامحها قبل أيام من بداية شهر محرّم، ويتهيّأ الناس لإقامة المجالس العاشورائية، ليعيدوا الحماسة والبصيرة الحسينيّة إلى شرايين المجتمع. وبذل القائمون على الهيئات الحسينية كل جهدهم لإقامة مراسم عزاءٍ أكثر فخامة وجمالاً؛ فهناك من ينظم طقوس السواد وتعليق الأوشحة الحسينية، وهناك من يُقيم المواكب ومحطات توزيع الطعام والشراب في الشوارع والأزقة.
في هذه الأيام، تُزيَّن المساجد والحسينيات بالرايات السوداء واللافتات الحسينية، وتتبدل نغمات الهواتف إلى اللطم والنوح، ويزيّن البعض سياراتهم بأشعار عاشورائية وقصائد كربلائية حماسية. بهذه المناسبة في هذا المقال نقدّم رسالة وزير الثقافة وبعض البرامج والنشاطات التي تقام في إيران.
شهر محرّم فرصة لتعزيز وحدة الشعب الإيراني
وصف وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي سيد عباس صالحي شهر محرّم بأنه فرصة لتعزيز انسجام الشعب الإيراني، في رسالة له بمناسبة حلول هذا الشهر.
وكتب سيد عباس صالحي يوم الجمعة في صفحته الشخصية على منصة “إكس”: “عشرة محرّم تُعدّ فرصة لتعزيز إنسجام الأمة الإيرانية.”
إيران الحسين(ع) منتصرة إلى الأبد
أعلنت “هيئة تنسيق شبكة المواكب والتجمعات الدينية” عن الشعار المشترك لمواكب العزاء في شهر محرّم لهذا العام، تحت عنوان: “إيران الحسين(ع).. منتصرة إلى الأبد.”
وقد تقرّر أن تعتمد جميع المواكب والتجمعات، إلى جانب شعاراتها الخاصة، الشعار المذكور أعلاه كشعار موحّد ورسمي لعاشوراء هذا العام. كما تم اعتماد الوسم “#إيران الحسين(ع)”، لتوحيد الجهود الإعلامية وصناعة المحتوى الرقمي في الفضاء الافتراضي.
الطابع العاشورائي يُزيّن المعالم العمرانية بطهران
وتزامناً مع حلول شهر محرّم، تمّ عرض لوحة فنية في أرجاء مدينة طهران تحت عنوان: “الراية لا تسقط من أيدينا أبداً… ما دامت على كتف العباس(ع)، فإيران كربلاء.”
يحمل هذا العمل الثقافي دلالات حماسية وعاشورائية قوية، مستلهماً من مفاهيم الصمود، الوفاء، وروح المقاومة لدى الشعب الإيراني، التي تنبع من ثقافة عاشوراء.
وفي نفس السياق تم إزاحة الستار عن تصميم الجدارية الواقعة في ساحة ولي عصر (عج) بطهران، تحت عنوان: “إيران الحسين(ع)”، وجاء في الشعار المدوّن على الجدارية: “بين العبودية والحرب… خياري هو البندقية.”
“خيمة الفن”
كما تقام فعالية “خيمه هنر” أي “خيمة الفن” في شكل ملتقى عاشورائي لفناني مجالات الموسيقى، وفنون الأداء، والفنون التشكيلية، في ساحة مركز “رودكي” الثقافي بطهران، خلال الفترة من 27 يونيو حتى 6 يوليو، ويشارك في الفعالية مجموعة من فناني المسرح والموسيقى والشعر.
بدأت الفعاليات منذ يوم الجمعة الماضي بعزف موسيقى طقسية تقليدية باستخدام الطبول والصنوج، تلاها مجلس تعزية لذكرى سيدنا مسلم بن عقيل(س)، وبعد ذلك أقيمت أمسية شعرية للشاعر والكاتب والباحث أمير مرزبان.
وقدّم المنشد “مصطفى راغب” عرضاً مختلفاً في الليلة الأولى من فعالية “خيمة الفن”، ثم أدت فرقة أوركسترية باستخدام آلات النفخ عدداً من الأناشيد الخالدة المرتبطة بموسم الحداد على الإمام الحسين(ع).
وتتضمن فعالية “خيمة الفن” عدداً من البرامج المتنوّعة، من بينها: تقديم برامج موسيقية في مجال الأناشيد والمقامات العاشورائية، إقامة ١٠ مجالس عزاء تقليدية تُسمى “شبيهخواني”، بمشاركة فنّانين بارزين، وأداء طقوس اللطم والنوح من قبل فنانين معروفين بأعمالهم الدينية، عرض أوبرا دُمى بعنوان “عاشوراء” من إخراج بهروز غريببور في قاعة حافظ، تنظيم عدد من المعارض الفنية التشكيلية حول مناسبات شهري محرّم وصفر.
كما تتضمن الفعالية تقديم عروض موسيقية خاصة ضمن إطار طقوس الحداد على الإمام الحسين(ع) بأنماط مختلفة، وقراءة مسرحيات بحضور نخبة من الممثلين المسرحيين، وأمسيات شعرية بمشاركة شعراء معروفين، بالإضافة إلى عروض موسيقية خاصة تشمل عزف الطبول الشعبية “السنج والدمام”، وأداءات إنشادية بإسلوب “شروه وناي دشتي”، وتنظيم وعزف مارشات جنائزية بالتعاون مع فرق آلات النفخ.
برامج وفعاليات المزارات المقدسة في أيام محرّم
وأعلنت منظمة الأوقاف والشؤون الخيرية أنه سيتم تنفيذ أربع فعاليات في أكثر من ٢٢٠٠ مزار على امتداد البلاد خلال أيام شهر محرّم في المزارات المقدسة، وهي: “البصيرة العاشورائية” التي تشمل خطب توعوية، ومجالس عزاء، وعروض رمزية تستعرض فلسفة النهضة الحسينية، و”أحلى من العسل” وإحياء قصة القاسم بن الحسن(ع) بمشاركة اليافعين، و”رضّع الامام الحسين(ع)” ومجلس للأمهات وأطفالهن دون السنتين لتكريم الشهيد علي الأصغر(ع)، و”السائرات على نهج زينب(س)” ولقاء نسائي يُجسّد دور المرأة في المقاومة، مستلهماً من سيرة السيدة زينب(س). وتهدف هذه الفعاليات إلى تعميق الوعي الديني، وترسيخ ثقافة عاشوراء، وتعزيز العلاقة بين الأجيال وسيرة أهل البيت(ع)، ونشر ثقافة الإمام الحسين(ع).
وقد خُصّصت كل ليلة من ليالي العشرة الأولى لذكرى شهيد، من القادة العسكريين والعلماء النوويين، إلى شهداء الأمن والعلم، فيما تم رفع علم إيران إلى جانب رايات عاشوراء وصور الشهداء، تعبيراً عن التلاحم بين الراية والدولة.
عرض مسلسل “عشق كوفي” الإيراني في العراق
ومن بين أبرز الأعمال الدرامية العاشورائية هذا العام، جاء المسلسل الإيراني “عشق كوفي”، من إنتاج مؤسسة “أوج” الفنية الإعلامية وإخراج “حسن آخوندبور”، والذي يُعرض على قناة العراقية، ليحمل العزاء من طهران إلى بغداد.
السردية تطرح قصة حبّ بين “هلال” العلوي و”نائلة” العثمانية، تتفتح في خضمّ عواصف كربلاء والكوفة عام ٦١ هـ.ق، وتُظهر كيف يصطدم الحب بامتحان العقيدة والولاء. يبدأ المسلسل بوصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة، ليتّصل سردياً بمسرح عاشوراء العاطفي والتاريخي.
اللافت أنّ هذا العمل لا يسرد واقعة كربلاء بإسلوب كلاسيكي، بل يعيد تصويره من بوابة الإنسان وعاطفته، جاعلاً من الهوى أبواباً للفداء، ومن المواجهة طريقاً للسمو.
“حسينية معلى” و “از سركذشت”
كما بدأ عرض برنامج “حسينية معلى”، من يوم الخميس الماضي والذي يستمر لمدة ١١ ليلة متواصلة عبر القناتَين الثالثة والقرآن الإيرانيتين.
ويحمل هذا الموسم الجديد من البرنامج هدفاً ثقافياً واضحاً يتمثّل في تعزيز التلاقي الثقافي والتواصل بين شيعة العالم، حيث لا يقتصر على استعراض طقوس العزاء عند الإيرانيين فقط، بل يُسلّط الضوء أيضاً على المراسم والمجالس الحسينية في عدد من الدول الإقليمية.
ويتم عرضه تزامناً مع ايران في لبنان، وباكستان، وتركيا، مع ترجمات خاصة تُوجّه إلى الجمهور الأجنبي، ما يُشير إلى تحوّله من إنتاج محلي إلى ظاهرة ثقافية ذات طابع عالمي.
كذلك إنطلق الموسم الثالث من البرنامج التلفزيوني “ازسركذشت” مساء الخميس الماضي بالتزامن مع ليلة الأول من محرّم، ويُبثّ على مدار ٦٠ ليلة متواصلة عبر قناة “نسيم”، ويقدّم قصصاً ترتبط بحركة الإمام الحسين(ع)، ويعرض حوارات تنسج السرد بين شخصيات اجتماعية بارزة وتجارب حياتية مؤثرة، تلامس وجدان الجمهور وتُضيء على دروس عاشورائية من قلب الواقع المعاصر.
١١٠ ممثلين يُنشدون “حديث الوفاء”
في شيراز، تستعدّ الفرقة المسرحية”التعزية الكبرى” لتقديم عرض “حديث الوفاء”، والذي يصوّر بيعة العباس (ع) ليلة عاشوراء ووفاء الأنصار في وجه تراجع الكوفيين. يُشارك في هذا العمل ١١٠ ممثلين تتراوح أعمارهم من ٥ إلى ٧٠ عاماً، وسيُعرض في الشوارع، وليس في القاعات، كاستعادة حيّة للميدان الكربلائي.
في الحقيقة محرّم ١٤٤٧هـ في إيران لم يكن موسماً للعزاء فقط، بل زمناً للوعي وإعادة البيعة، حيث اندمج التراث مع الفن، والميدان مع المنبر، والحناجر مع الصور، لتتجدّد عاشوراء في الزمن المعاصر… لا ماضٍ يُبكى عليه، بل إرثٌ يُصاغ من جديد.