رغم أن «شيفتشينكو» كانت حتى وقت قريب مجرد نقطة على الخارطة، فإنها اليوم تحتل موقعًا متقدّمًا في صراعات القرن الحادي والعشرين، والتي باتت تُخاض من أجل من يسيطر على الموارد النادرة في اقتصاد عالمي منخفض الكربون. المنجم الممتد على نحو 100 فدان يحتوي على تركيزات عالية من الليثيوم، ويُصنّف ضمن أغنى الرواسب في أوروبا الشرقية.
بات الليثيوم عنصرًا استراتيجيًا لا غنى عنه في الصناعات التالية: السيارات الكهربائية، وتقنيات تخزين الطاقة والأجهزة المحمولة والصناعات الدفاعية (أنظمة التوجيه والطائرات المسيّرة)، وقد وصفت وكالة الطاقة الدولية الليثيوم بأنه «النفط الجديد»، متوقعة ارتفاع الطلب عليه بنسبة خمسة أضعاف بحلول عام 2030، مع التحوّل العالمي نحو الطاقة البديلة والمركبات عديمة الانبعاثات. الولايات المتحدة صنّفت الليثيوم ضمن المعادن الحيوية التي تدخل في نطاق الأمن القومي والابتكار الصناعي، ولهذا السبب أصبحت قرية صغيرة كـ «شيفتشينكو» قطعة شطرنج متقدمة في لعبة القوى العظمى.
كيف أتمّت روسيا السيطرة على شيفتشينكو؟
بدأت العملية العسكرية الروسية في منتصف يونيو / حزيران 2025، حيث استهدفت القوات الروسية موقع المنجم بعدّة ضربات مركّزة بالطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة، تلاها تقدّم بري كثيف. ورغم محاولة القوات الأوكرانية تعزيز دفاعاتها حول المنطقة، خاصةً بعد التحذيرات الاستخباراتية باحتمال تعرض المنجم لهجوم، فإن الدعم الجوي لم يكن كافياً، كما أن القوات الأوكرانية لم تتلقّ تعزيزات من الحلفاء في الوقت المناسب. أنهت موسكو العملية في ثلاثة أيام، وأعلنت سيطرتها الكاملة على القرية والمنجم، ورفعت العلم الروسي في مواقع المنجم الصناعية، أثار احتلال الموقع الصناعي قرب المنجم بسرعة نسبية، قلقًا فوريًا في واشنطن.
وفي تصريحٍ لافت، قال الجنرال الروسي «فلاديمير غروموف» بعد السيطرة على البلدة : «نحن نعلم تماماً قيمة هذا المنجم الاستراتيجي، ولن نسمح بأن يقع تحت هيمنة الناتو مرّة أخرى.»
الاتفاق الأوكراني الأمريكي .. استثمار استراتيجي أم مغامرة غير محمية
قبل هذا التطور بشهرين فقط، وتحديداً في أبريل/ نيسان 2025م ، أعلنت إدارة ترامب عن اتفاقية تعدّ من أهم الشراكات الاقتصادية الجديدة في القارة الأوروبية. الإتفاقية وُقّعت مع حكومة الرئيس الأوكراني «زيلينسكي»، وتهدف إلى تعزيز الاستثمارات الأميركية في قطاع المعادن الأوكراني. جاءت هذه المبادرة الأميركية في سياق استراتيجي يهدف إلى فك الاعتماد عن الصين، التي تُهيمن على أكثر من 70% من سوق المعادن النادرة العالمية.
الاتفاق منح واشنطن امتيازات واسعة في الوصول إلى المعادن الأوكرانية، خاصةً الليثيوم والتيتانيوم والمنغنيز. كما أُنشئ صندوق استثماري مشترك لتطوير قطاع التعدين والبنية التحتية في المناطق الشرقية والغربية من أوكرانيا. وبدأت شركتا «كريتيكال ميتالز كورب» الأميركية و«يوكرليثيوم» الأوكرانية خطوات تنفيذية عملية لافتتاح مركز إنتاج تجريبي في منجم «شيفتشينكو» قبل أن تسقط المنطقة في يد الجيش الروسي. ومع خسارة الموقع الرئيسي في الاتفاق، أصبحت الصفقة في مهب الريح.
لكن رغم قوة الإتفاق من الناحية الاقتصادية، فإنه لم يتضمّن أي التزام عسكري واضح من الجانب الأميركي لحماية البنية التحتية للمعادن. هذه الثغرة كانت محلّ انتقاد من بعض الساسة الأوكرانيين حتى قبل اندلاع المعارك الأخيرة.
سيطرة خاطفة قلبت معادلة التعدين في شرق أوكرانيا
السيطرة الروسية على المنجم لم تكن مجرد تغيير في الخارطة العسكرية، بل تسببت في عاصفة سياسية واقتصادية. فقد أعلنت شركة «كريتيكال ميتالز» الأميركية عن تعليق أعمالها في شرق أوكرانيا إلى حين تقييم الأوضاع الأمنية، بينما شهدت أسهمها تراجعاً كبيراً في البورصات الأميركية، إثر فقدان الأصل الاستثماري الأبرز في المرحلة الأولى من تنفيذ الشراكة.
من ناحيةٍ أخرى، ازدادت الضغوط داخل الكونغرس الأميركي على الإدارة لمراجعة الاتفاق وضمان حماية الاستثمارات الاستراتيجية في مناطق النزاع. بعض نواب الكونغرس حذّروا من أن الولايات المتحدة قد تخسر مزيداً من المواقع الاستراتيجية إن لم يكن هناك موقف أكثر صرامة حيال التقدّم الروسي في شرقي أوكرانيا.
روسيا، من جهتها، وبعدما أصبحت تملك ما يقارب 30% من الليثيوم الأوكراني لم تُضيّع الوقت، وبدأت بنقل معدات ومهندسين إلى المنطقة بهدف إعادة تشغيل المنجم لصالح شركات محلية وأخرى يُعتقد أنها على علاقة بشركات آسيوية، بما فيها شركات صينية مختصّة في تكرير الليثيوم وتصديره إلى أسواق آسيوية.
مستقبل الاتفاق.. تعديل المسار أم إعلان الفشل
تباينت ردود الفعل بشأن مصير اتفاق المعادن بين كييف وواشنطن. بينما تميل بعض الشركات الأميركية إلى تعليق أنشطتها، ترى جهات أخرى أن الفرصة ما زالت قائمة لإعادة صياغة الاتفاق وتوجيه الاستثمارات نحو مناطق أكثر أماناً في أوكرانيا أو حتى في بولندا وسلوفاكيا. تحدثت مصادر حكومية أوكرانية عن «مرحلة تكيف» للاتفاق بدل إلغائه، مع خطط لافتتاح مناجم بديلة في وسط وغرب البلاد. وتواجه كييف الآن ضغطًا مزدوجًا: إعادة كسب ثقة المستثمرين من جهة، وتأمين الدعم الغربي العسكري لحماية ما تبقى من البنى التحتية الاستراتيجية من جهةٍ أخرى.
الموقف الغربي بين التردد والحذر
الناتو، وإن أصدر بيانات إدانة للهجوم على «شيفتشينكو»، إلا أنه لم يعلن عن أي إجراءات عملية لحماية المصالح الاقتصادية الغربية في المناطق الصناعية الأوكرانية. أما الاتحاد الأوروبي، فقد اكتفى بعقد اجتماعات تنسيقية بين فرنسا وألمانيا وبولندا لمراجعة سلاسل التوريد الأوروبية في مجال المعادن النادرة، دون التطرّق إلى أي تحرك مشترك على الأرض. يبدو أن الحسابات الأوروبية ما زالت مترددة بين حماية الاستثمارات والحذر من التصعيد العسكري المباشر مع روسيا.
من معارك النفط إلى حروب الليثيوم
قد تبدو الحرب في «شيفتشينكو» مجرد معركة صغيرة على أطراف دونيتسك، لكنها في الحقيقة تُمثّل تحولاً استراتيجيًا في الصراع العالمي على موارد المستقبل. الليثيوم لم يعد مجرد مادة خام، بل أصبح رمزاً للسيادة الصناعية والتقنية. ومن يتحكم بالليثيوم، يتحكم بإنتاج البطاريات، وبمنظومات الطاقة، وباقتصاد الغد. لذلك، لم تكن السيطرة الروسية على منجم «شيفتشينكو» انتصاراً عسكرياً فحسب، بل كانت ضربة استباقية لأمن الغرب الاقتصادي وسلاسل إمداده الاستراتيجية.
وإذا كانت الحروب السابقة تُخاض من أجل النفط، فحروب الحاضر تُخاض من أجل الليثيوم والكوبالت والتيتانيوم. السيطرة الروسية على منجم شيفتشينكو تُمثل انعطافة خطيرة في حرب الموارد، وقد تكون نقطة تحول في علاقة أوكرانيا بالغرب، وربما علامة فارقة في تعاظم نفوذ «محور المعادن الشرقي» بقيادة موسكو وبكين.