العمود الفقري للاقتصاد الإيراني لم ينحن رغم كل التهديدات

النفط والغاز.. الحصن الاستراتيجي للاقتصاد الإيراني

في تحليل الحروب المعاصرة، خلافاً للتصور السائد الذي يبحث عن ساحات القتال عند الحدود أو في الأجواء، تتشكّل أهم جبهات المواجهة في الغالب حول البنى التحتية الاقتصادية والصناعية للدول. وقد كانت صناعات النفط والغاز الإيرانية - باعتبارها العمود الفقري للاقتصاد الوطني- الهدف الأول والأساسي للكيان الصهيوني خلال الهجمات التي استمرت 12 يوماً.

وهذا التركيز المكثف على قطاع النفط والغاز يحمل رسائل عميقة للمجتمع الإيراني والنشطاء الإقليميين، تكشف عن: هيكلية القوة الاقتصادية الإيرانية، ونقاط الضعف المحتملة التي يسعى العدو لاستغلالها، والاستراتيجية الصهيونية للضغط الأقصى عبر تعطيل البنى التحتية الحيوية.

 

وتشير هذه التطورات إلى تحول استراتيجي في طبيعة الحروب، حيث أصبحت البنية التحتية للطاقة ساحة حاسمة للمواجهة، مما يستدعي: تعزيز الحماية السيبرانية للمنشآت الحيوية، وتطوير أنظمة الإنذار المبكر، وتنويع مصادر الدخل الوطني، وتعزيز التعاون الإقليمي لمواجهة التهديدات المشتركة.

 

يُذكر أن هذه الهجمات جاءت في إطار حرب شاملة تهدف إلى زعزعة الاستقرار الاقتصادي؛ لكن صمود المنشآت النفطية الإيرانية أثبت فشل هذه الاستراتيجية العدوانية.

 

أهمية النفط والغاز في الهيكل الاقتصادي الإيراني

 

في الاقتصاد الإيراني، لا يوجد قطاع يلعب دورًا أساسيًا ومتعدد الأبعاد مثل النفط والغاز.

 

وفقًا لأحدث تقارير البنك المركزي ومركز أبحاث مجلس الشورى الإسلامي، أكثر من 55٪ من إيرادات العملات الأجنبية في البلاد تتحقق مباشرة من صادرات النفط الخام والمكثفات الغازية والمنتجات البتروكيماوية.

 

كما تم تمويل أكثر من 70٪ من إيرادات الحكومة خلال سنوات العقوبات من خلال بيع النفط والغاز؛ بالإضافة إلى ذلك، فإن صناعة النفط لا توفر فقط المدخلات لمئات الوحدات البتروكيماوية والمصافي ومحطات الطاقة، بل تلعب أيضًا دورًا محوريًا في استقرار شبكة الكهرباء وإنتاج النقل وتوفير المواد الخام للصناعات المصنعة وحتى الزراعة.

 

ويقول “سامي رزاقي”، محلل اقتصاد الطاقة، عن المكانة الحيوية لهذه الصناعة: “لا تستطيع أي حكومة أو خطة تنموية في إيران البقاء أو النمو بدون عائدات النفط والغاز.

 

ليس فقط الميزانية؛ ولكن أيضًا توازن سوق الصرف الأجنبي، واستيراد السلع الاستراتيجية، والأمن الغذائي، والاستقرار الاجتماعي، كلها تتأثر بدورة القيمة المضافة للنفط والغاز”.

 

لماذا استهدف الكيان الصهيوني النفط والغاز الإيراني؟

 

هذه الأهمية الاستراتيجية لا تترك مجالاً للشك في أن تعطيل صناعة النفط والغاز يعادل إيقاف نبض الاقتصاد الوطني. المخططون في مراكز الأبحاث في تل أبيب وحلفائها الغربيين يدركون جيداً أن أي انقطاع أو حتى تخفيض مؤقت في تدفق النفط والغاز يمكن أن يؤدي إلى سلسلة من الأزمات المتتالية تشمل ارتفاع سعر الصرف والتضخم، وانقطاعات التيار الكهربائي الواسعة، وتوقف حركة الصناعات.

 

وتقول “مرجان أفشاري” أستاذة إدارة الأزمات في جامعة طهران: “استهداف الكيان الصهيوني لصناعة النفط والغاز ليس مجرد عملية عسكرية، بل محاولة لضرب الثقة والتماسك الوطني.

 

توقف أي مصفاة أو خط أنابيب يمكن أن يسبب نقصاً في الوقود، وارتفاع الأسعار، وخللاً في الكهرباء، وحتى ظهور طوابير في محطات الوقود. هذا مظهر واضح للحرب الشاملة وضرب الأمن الوطني من الجبهة الاقتصادية”.

 

هذا الاستهداف يؤكد أن النفط والغاز يمثلان نقطة الضغط الأكثر حساسية، وأن الحرب الاقتصادية أصبحت الجبهة الرئيسية للصراع، وأن الصمود في هذا القطاع يعني الحفاظ على السيادة الوطنية.

 

صمود الصناعة النفطية في مواجهة الهجوم

 

مع ذلك، كانت قصة صمود قطاع النفط والغاز الإيراني خلال الأيام الـ12 مختلفة تماماً. فقد كان العدو يأمل بأن يؤدي استهداف البنى التحتية الحيوية إلى تعطيل سلسلة الإنتاج والتصدير وتجفيف الموارد المالية للحكومة؛ لكن الواقع أثبت أن المصافي لم تتوقف عن العمل، بل استمر تصدير النفط وتوريد الوقود لمحطات الطاقة حتى في ذروة الأزمة.

 

في هذا الصدد، يوضح “محمد ثقفي” مدير نظام استدامة الطاقة في وزارة النفط: “خلال أيام الأزمة، تطوع عدد كبير من العاملين في قطاع النفط والغاز للعمل في نوبات دعم إضافية.

 

استطعنا من خلال أنظمة إدارة المخاطر والتوزيع الجغرافي للمنشآت واعتماد خطوط احتياطية، احتواء أي محاولة للتخريب. حتى الهجمات السيبرانية التي استهدفت البنى التحتية التشغيلية تم تحييدها بالكامل بفضل تقنيات محلية دفاعية متطورة”.

 

وحول دور الكوادر البشرية والإجراءات الوقائية، يضيف ثقفي: “شكّلت الكفاءات البشرية المدربة خط الدفاع الأول للصناعة؛ لكن لا يجب إغفال الاستثمارات الكبيرة في الرقمنة وتطوير أنظمة الإنذار المبكر. لقد أدرك العدو أن إيران ليست ضعيفة فحسب، بل قادرة حتى على زيادة طاقتها الإنتاجية في ظروف الحرب”.

 

هذا الأداء أثبت أن التخطيط الاستراتيجي المسبق كان حاسماً، والبنية التحتية الموزعة جغرافياً عززت المرونة، والاستثمار في التقنيات المحلية حقق الأمن السيبراني، والروح التطوعية للعاملين شكّلت درعاً واقياً.

 

عواقب فشل العدو في شلّ قطاع الطاقة الإيراني

 

لم تحقق جهود الكيان الصهيوني لشلّ هذا الشريان الحيوي أي مكاسب ملموسة، بل على العكس سلطت النتائج السلبية لهذه المحاولات الضوء على كفاءة الإدارة الإيرانية أمام العالم.

 

يحمل هذا الفشل رسائل مهمة لصانعي السياسات الإيرانيين وحتى للحلفاء الاستراتيجيين لخطوط الطاقة في آسيا وأوروبا.

 

وتؤكد الباحثة في أمن الطاقة “سمية كيان”: “أثبتت المقاومة الكاملة ضدّ الهجمات الصاروخية والسيبرانية للسوق العالمية ولعملائنا الرئيسيين أن إيران شريك موثوق به، وأنه حتى في ذروة الأزمات، لا يمكن توقع حدوث اضطرابات طويلة الأمد في الصادرات، وهذا سيعزز بدوره مكانة إيران الإقليمية والدولية في مجال الطاقة”.

 

وعلى الصعيد المحلي، منع استمرار إنتاج النفط والغاز حدوث انقطاعات واسعة للتيار الكهربائي وعدم استقرار اقتصادي. فقد استمرت الصناعات البتروكيماوية في عملها، وعملت محطات الطاقة بكامل طاقتها، واستمرت الصادرات إلى الدول المستهدفة، خاصة في المنطقة، دون انقطاع، وهذا يعني أن العمود الفقري للاقتصاد الإيراني لم ينحن رغم كل التهديدات.

 

التطلُّع للمستقبل.. وضرورة تعزيز الردع في قطاع الطاقة

 

لكن هذه الأحداث تمثل إنذاراً جاداً للمستقبل. يؤكد العديد من الخبراء أنه رغم فشل العدو في شلّ صناعة النفط والغاز، إلا أنه يجب الاستعداد دائماً لسيناريوهات أكثر تعقيداً وخطورة. أصبح الاستثمار في تحديث المنشآت وتعزيز صمودها، وتعميق توطين التكنولوجيا، وتأهيل كوادر بشرية متعددة المهارات أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

 

ويلخّص الخبير الاقتصادي في مجال الطاقة “حامد جم” الوضع قائلاً: “يجب أن يكون قطاع النفط والغاز الإيراني مستعداً في أي لحظة لمواجهة ليس فقط التهديدات العسكرية، بل حرباً شاملة تشمل عقوبات تكنولوجية، وهجمات سيبرانية، وعمليات تخريبية.

 

إن استمرار النمو الاقتصادي للبلاد وأمن المجتمع مرتبطان بصمود وديناميكية هذا القطاع. في العالم الجديد، يُعتبر الأمن الاقتصادي شرطاً مسبقاً للأمن الوطني، ويلعب النفط والغاز الإيراني دور الحارس لهذا المعقل.

 

وهذا يتطلب: تعزيز البنية التحتية الرقمية، وتطوير أنظمة الدفاع السيبراني، وتعزيز التعاون بين القطاعات، والاستثمار في البحث والتطوير، وبناء منظومة إنذار مبكر متكاملة”.

 

هذه الرؤية الإستباقية ضرورية لضمان عدم نجاح أي محاولات مستقبلية لزعزعة استقرار القطاع الحيوي الذي يمثل شريان الحياة للاقتصاد الإيراني.

 

النفط والغاز.. الحصن الاستراتيجي للاقتصاد الإيراني

 

كشفت تجربة الإثني عشر يوماً من الحرب الأهمية الحيوية لصناعة النفط والغاز الإيرانية. العدو الصهيوني كان يعلم جيداً أنه من خلال استهداف هذا القطاع، فإنه يستهدف نبض الشعب الاقتصادي والاجتماعي؛ لكن الصمود والحكمة والمرونة الهيكلية والبشرية منعت تحقيق هذا الحلم.

 

اليوم، أصبح تعزيز الردع الاقتصادي من خلال الاستثمار في صناعة النفط والغاز وتأهيل الجيل القادم من المديرين أولوية قصوى لإيران، لأن غداً ما بعد كل أزمة سيكون ملكاً للأمم التي تبني عمودها الفقري الاقتصادي بقوة وذكاء ومرونة.

 

المصدر: الوفاق خاص