روسيا والعقوبات الأوروبية

معركة استنزاف ترسم ملامح نظام عالمي جديد

ساهمت العقوبات الأوروبية على روسيا في إعادة تعريف شكل العالم من تراجع هيمنة المؤسسات الغربية على السياسات الدولية وصعود نفوذ "بريكس" ومنظمة "شنغهاي" كمحاور بديلة

 منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، لم تعد العقوبات الغربية مجرد ورقة ضغط دبلوماسي تقليدية، بل تحوّلت إلى سلاح اقتصادي شامل يستهدف خنق الاقتصاد الروسي وتطويقه سياسيًا وماليًا وتقنيًا. ومع كل حزمة جديدة من العقوبات، كانت التوقعات الغربية تصب في خانة «انهيار موسكو الوشيك». غير أن الرياح الروسية جرت بعكس تلك التوقعات، لتكشف عن قدرة لافتة على التكيف والمناورة، فضلًا عن مسارعة الكرملين لإعادة تشكيل أولوياته الداخلية وصياغة خارطة تحالفات جديدة.
تصريحات بيسكوف؛ تفاوض لا يُنتزع بالقوة

 

في آخر المواقف الصادرة عن موسكو، قال المتحدث باسم الكرملين «دميتري بيسكوف» إن روسيا لن تُجبر على المفاوضات بقوة العقوبات، مؤكدًا أن «المنطق فقط هو ما يدفع للحوار». جاءت تصريحاته تعليقًا على الحزمة الأوروبية الثامنة عشرة المرتقبة، والتي تشمل قيودًا على قطاعات استراتيجية في روسيا، من النفط والطاقة إلى المال والتكنولوجيا.

 

بدلًا من الانكفاء، بادرت روسيا إلى إعادة تشكيل أولوياتها الداخلية وبناء تحالفات استراتيجية بديلة. في المقابل، بدأت عواصم أوروبية تشعر بثقل ارتدادات هذه العقوبات على اقتصاداتها المحلية، وسط أزمات تضخم وتراجع في نمو الناتج القومي.

 

أوروبا تدفع الثمن ويرتد السلاح على مُطلِقه

 

في الوقت الذي ظنّت فيه أوروبا أن العقوبات ستُفقد موسكو توازنها الداخلي، بدأت الاقتصادات الأوروبية نفسها تعاني من تبعات هذه المقاربة:

 

تضخّم تاريخي: شهدت العديد من دول الاتحاد الأوروبي معدلات تضخم غير مسبوقة منذ السبعينيات.

 

أزمة طاقة: أدّى الحظر على الغاز والنفط الروسي إلى ارتفاع أسعار الطاقة بشكل حاد، خاصةً مع اقتراب فصل الشتاء.

 

 

اضطراب صناعي: تأثرت سلاسل التوريد الصناعية، لا سيّما في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

 

تباين سياسي داخلي: برز الانقسام بين دول مؤيدة للتشديد (كفرنسا وألمانيا) وأخرى ترى فيه ضررًا ذاتيًا (مثل المجر وسلوفاكيا).

 

التأثير على روسيا؛ من الانكماش إلى إعادة التموضع

 

رغم الانكماش الأولي في الناتج المحلي الإجمالي عام 2022، سرعان ما فعّلت روسيا خطط طوارئ اقتصادية أدّت إلى نهضة زراعية حيث جرى الاستفادة من الأراضي الواسعة لتوسيع الإنتاج المحلي، وشهدنا تسارعا صناعيا عبر دعم الصناعات العسكرية والتقنية لتقليص الاعتماد على الخارج و تنويع صادرات الطاقة والتي شملت وجهات جديدة مثل الصين، الهند، تركيا، وإفريقيا، والنقطة الأهم كانت الابتعاد عن الدولار عبر إطلاق آليات دفع بالعملات الوطنية مع العديد من الشركاء.

 

روسيا؛ من الدفاع إلى التحدي

 

في المراحل الأولى من الأزمة، اعتمد الخطاب الروسي نبرة دفاعية تتحدث عن المؤامرة الغربية والحاجة إلى ردعها. أما الآن، فقد تحوّل هذا الخطاب إلى تحدٍّ استراتيجي صريح، يتبنّى فكرة «الفرصة داخل التهديد»، وينطلق من رفض الهيمنة الغربية على النظام المالي العالمي والتأكيد على الاكتفاء الذاتي كخيار استراتيجي والمضي في توطين التكنولوجيا والصناعات السيادية.

 

تموضع جديد يُعيد تعريف الأولويات الروسية

 

لم تقف موسكو مكتوفة الأيدي أمام الإغلاق الغربي، بل فعّلت تحالفات بديلة تُعيد رسم الجغرافيا الاقتصادية والسياسية فبدأت مع الصين شراكة استراتيجية في الطاقة والبنية التحتية وتعاونت مع الهند في الدفاع والتكنولوجيا، وطورت مع  إيران وآسيا الوسطى مشاريع نقل واستثمار، ووسعت النفوذ الدبلوماسي والتجاري مع أفريقيا وأمريكا اللاتينية.

 

هذا التموضع الجديد أعاد تعريف الأولويات الروسية، ومنها تخفيض الاعتماد على نظام SWIFT، وإرساء ترتيبات مالية جديدة تعتمد على الروبل واليوان والروبية.

 

الطاقة كساحة حرب.. من يملك الورقة الرابحة؟

 

يحاول الغرب تحجيم قدرات روسيا في سوق النفط عبر تحديد سقف سعري بلغ 60 دولارًا للبرميل، وتخفيضه لاحقًا إلى 45 دولارًا، إلاّ أن موسكو لا تزال تحتفظ بأوراق قوية أهمها صادرات الغاز إلى كوريا الجنوبية واليابان وتصدير الفحم إلى تايوان وشحنات النفط العملاقة إلى الصين والهند كذلك كان لأسطول الظل دورٌ كبير عبر الاستفادة من ناقلات خفية تتجنب العقوبات وتضمن استمرار التدفقات. في المقابل، تستمر أوروبا في معركتها ضد ما تعتبره استغلالًا روسيًا للطاقة كسلاح سياسي.

 

التصعيد الأمريكي؛ بوابة لحرب تجارية عالمية

 

وفق تقارير «واشنطن بوست»، يعتزم الكونغرس الأمريكي فرض رسوم تصل إلى 500٪ على الواردات الروسية، بالإضافة إلى عقوبات ثانوية على الدول التي تواصل التعامل التجاري مع موسكو. مما قد يشعل فتيل مواجهة تجارية كبرى تشمل أطرافًا دولية مثل الصين وتركيا والبرازيل والهند، وتُحذر تحليلات اقتصادية من أن مثل هذه الخطوة قد تُعطّل سلاسل التوريد العالمية وتزيد من توتر العلاقات الدولية في وقت يشهد فيه العالم هشاشة اقتصادية غير مسبوقة.

 

ربما لم تنجح العقوبات في كسر عزم موسكو، لكنها ساهمت في إعادة تعريف شكل العالم من تراجع هيمنة المؤسسات الغربية على السياسات الدولية وصعود نفوذ «بريكس» ومنظمة «شنغهاي» كمحاور بديلة مع  تعزيز قناعة موسكو بأن القطبية الواحدة لن تدوم.

 

الاقتصاد الروسي في 2024؛ الأرقام تتحدث

 

رغم العقوبات، سجّل الاقتصاد الروسي نموًا لافتًا بنسبة 4.3% عام 2024، مقارنة بـ0.9% فقط في منطقة اليورو.

 

كما أعلن بوتين عن خفض الإنفاق الدفاعي وتخصيص 6.3% من الناتج المحلي (13.5 تريليون روبل) لمجالات دفاعية مضاعفة جهود توطين الصناعات ودعم الزراعة والطاقة كمصادر دخل ثابتة. وبذلك، أثبت الاقتصاد الروسي قدرته على التكيّف والمرونة في بيئة شديدة العدائية.

 

سيناريوهات المرحلة المقبلة.. إلى أين تتجه المواجهة؟

 

السيناريو الأول هو استمرار التصعيد الاقتصادي مع تشديد العقوبات، مزيد من العزل، وتوسيع دائرة القيود التقنية والمالية. السيناريو الثاني قائم على مفاوضات مشروطة مع ظهور وساطات دولية من الصين أو تركيا، لكن بشروط تفرضها موسكو من موقع قوة، السيناريو الثالث تفكك العقوبات بشكلٍ تدريجي في حال اشتدت أزمة الطاقة أو ازدادت الضغوط السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، مما يدفع بعض الدول في مراجعة جدوى العقوبات.

 

لن نخضع للقوة بل نفاوض بالعقل والمنطق

 

لقد تحوّلت العقوبات من محاولة «خنق استراتيجي» إلى محفّز لبناء منظومة روسية مستقلة اقتصاديًا وسياسيًا. وباتت موسكو تنظر إليها كجزء ثابت من الواقع الدولي، تستجيب له بسياسة النفس الطويل، لا الهروب إلى الخلف.

 

هذا ما قاله بيسكوف، وهذا ما تُظهره الوقائع والأرقام على الأرض. وبينما يخوض الغرب معركة الضغط القصوى، يبدو أن روسيا، رغم كل القيود، لم تُجبر على الانحناء، بل أعادت بناء قواعد لعبتها في النظام الدولي الجديد.

 

 

 

المصدر: الوفاق