تحالف الضرورة؛

لندن وكانبيرا في مواجهة تمدد التنين

تحالف لندن وكانبيرا يبني جسوراً جديدة لتحالفات دفاعية قد تشكل نواة لمحور غربي موسع يوازي تمدد بكين شرقاً

 في زمنٍ باتت فيه البحار تفصح عن حجم التحالفات أكثر من المؤتمرات، تبرز منطقة المحيطين الهندي والهادئ كساحة مشتعلة لإعادة تشكيل موازين القوى العالمية. لم يعد الصراع على بحر الصين الجنوبي شأناً إقليميًا فحسب، بل تحوّل إلى مسرحٍ عالمي تتقاطع فيه طموحات بكين مع رسائل الغرب الرمزية والعسكرية. من هنا، أعادت لندن رسم خطوط توجهها الإستراتيجي، واختارت كانبيرا شريكًا في مواجهة ما يُوصف بـ«التمدّد الزاحف للتنين الصيني». لكن، هل يحمل هذا التحالف أوزانًا حقيقية في ساحة يتقاطع فيها القانون الدولي مع المصالح النووية؟
أول مناورات بحرية مشتركة بين لندن وكانبيرا
أدّت الشراكة بين لندن وكانبيرا إلى إطلاق مناورات بحرية مشتركة في قلب منطقة النزاع الساخنة. وقد رأت الدولتان أن تدعيم حضورهما هناك أمرٌ لا بدّ منه لإثبات جديتهما في مواجهة النفوذ الصيني المتنامي، لا سيّما بعد تزايد علامات الغموض حول الموقف الأميركي في المرحلة الراهنة.
ففي يونيو/ حزيران 2025، نفذت المملكة المتحدة وأستراليا أول عملية حرية ملاحة مشتركة في بحر الصين الجنوبي، تحديدًا حول جزر «سبراتلي» المتنازع عليها. شاركت في العملية السفينة البريطانية HMS Spey والسفينة الأسترالية HMAS Sydney، في خطوة وُصفت بأنها إشارة واضحة لرفض المطالب الصينية.
بعد هذه المناورات، من المقرر أن تنضم السفن البريطانية والأسترالية إلى مجموعة حاملة الطائرات البريطانية «برنس أوف ويلز» في سنغافورة، لإجراء تدريبات مشتركة مع كندا، النرويج، نيوزيلندا، وإسبانيا، في إطار تحالف بحري غربي موسّع.
بحر الصين الجنوبي؛ ساحة التوترات التي لا تهدأ
تبلغ أهمية بحر الصين الجنوبي حدًا جعله محورًا ثابتًا في الجغرافيا السياسية للقرن الجديد. تصر الصين على ملكية نحو 90% من هذا البحر وفق ما يُعرف بـ«خط النقاط التسع»، بينما ترفض الدول الأخرى المطلة هذه المطالب، معتبرةً أنها تخالف القانون الدولي البحري.
هل تملك لندن وكانبيرا وزنًا فعليًا في معادلة بحر الصين؟ تسعى المملكة المتحدة وأستراليا إلى تعزيز حضورهما العسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وسط تنافس متصاعد على النفوذ مع الصين. وقد شهد بحر الصين الجنوبي أول مناورات بحرية مشتركة بين الطرفين، في محاولة منهما لإظهار التزامهما بحرية الملاحة في المياه الدولية.
لكن هذا التحرك يثير تساؤلات مشروعة حول واقعية دور الدولتين في منطقة تموج بصراعات معقّدة ومصالح متشابكة، لاسيّما في ظل تراجع القدرة على التنبؤ بالموقف الأميركي بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، مما أدى إلى تقويض الثقة التقليدية في مظلة واشنطن الأمنية.
يرى محللون أن النفوذ البريطاني والأسترالي في هذه المنطقة لا يزال محدودًا. فوفق الخبير الروسي «دميتري موسياكوف»، فإن بكين تُركّز حاليًا على صراعاتها المباشرة مع الفلبين، وليس مع قوى بعيدة مثل أستراليا أو بريطانيا. ويضيف أن دول جنوب شرق آسيا، وفي ظل التوازن الحرج بين الصين والولايات المتحدة، تبحث عن حلفاء موثوقين، غير أن أستراليا لا تزال خارج دائرة هذا التصنيف، ما لم تكتسب قدرات بحرية نووية حقيقية. أمّا بريطانيا، وفق موسياكوف، فهي تفتقر في الوقت الراهن إلى الموارد التي تخولها لعب دور حاسم في الصراع الإقليمي.
بهذه المعطيات، يبدو أن تحركات لندن وكانبيرا تحمل طابعًا رمزيًا أكثر منه استراتيجيًا، وتبقى رهينة مدى قدرتهما على تطوير أدوات نفوذ ملموسة، بعيدًا عن التحالفات التقليدية أو رسائل الدعم السياسي.
كيف أعادت لندن رسم بوصلتها نحو الشرق؟
منذ مراجعة استراتيجيتها الدفاعية في 2021، أعلنت المملكة المتحدة نيتها التوجّه نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ضمن ما وصفته بـالانحناء شرقاً. هذه السياسة تتجلّى اليوم عبر تعزيز الحضور البحري البريطاني في مياه بعيدة عنها. أما أستراليا فقد أظهرت تطورًا لافتًا في طموحها الاستراتيجي. فخلافاتها البحرية مع الصين ليست وليدة اللحظة، بل تفاقمت في السنوات الأخيرة بسبب عمليات المراقبة العسكرية الصينية قرب السواحل الأسترالية، وتأتي هذه المناورات كمحطة بارزة في سياق سعي «كانبيرا» لترسيخ دورها كقوة بحرية فعالة في المنطقة. وتجدر الإشارة أنه رغم الطابع الاستعراضي للمناورات، إلا أن رمزية توقيتها ومكانها لا تخفى على أحد. لقد اختير بحر الصين الجنوبي بعناية كرسالة موجهة لبكين، مفادها أن حرية الملاحة خط أحمر بالنسبة للحلفاء، سواء كانت السفن أميركية أو أنجلو-أوقيانية.
مشروع AUKUS؛ غواصات نووية تغيّر قواعد اللعبة
ضمن اتفاقية AUKUS، ستبدأ أستراليا في استلام غواصات نووية هجومية من طراز SSN-AUKUS بحلول 2040، تُبنى بتقنيات بريطانية وأميركية. هذه الغواصات ستمنح أستراليا قدرة ردع استراتيجية في المحيط الهادئ، وتُعد تحولًا نوعيًا في ميزان القوى البحرية، هذا المشروع، سيجعل من البحرية الأسترالية قوة لا يُستهان بها في المحيط الهادئ.
رد فعل صيني غاضب نتيجة الاستفزاز المتعمد
أبدت بكين استياءً شديدًا من المناورات، وأرسلت سفن استطلاع وغواصات لمراقبة التحرك العسكري المشترك عن كثب. كما نشرت وسائل إعلامها الرسمية تصريحات منددة، واصفة ما جرى بأنه «مسرحية غربية» تستهدف تشويه نوايا الصين السلمية.
ردود الفعل الإقليمية.. ترحيب صامت وحذر استراتيجي
لم تُبدِ معظم دول جنوب شرق آسيا مواقف معلنة. إلا أن مصادر دبلوماسية تشير إلى أن الفلبين كانت مرتاحة للمناورات، على أمل أن تدعم موقفها القانوني في النزاع البحري مع الصين. أما ماليزيا وفيتنام، فاتبعتا سياسة الصمت المطبق، مع مراقبة دقيقة للتطورات. في قراءة روسية للمشهد، نقلت صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» عن محللين في معهد الدراسات الشرقية أن الدور البريطاني والأسترالي في بحر الصين الجنوبي يبقى محدود التأثير، مقارنة بالوجود الأميركي أو الياباني. كما قللت التحليلات من قدرة الغواصات النووية المستقبلية لأستراليا على إحداث فرق نوعي ما لم تترافق بدعم واسع.
بين التصعيد والمناورة الدبلوماسية
يتوقف مستقبل هذه المواجهات على عدد من العوامل، أبرزها سلوك البحرية الصينية تجاه السفن الأجنبية في المنطقة وموقف الولايات المتحدة، وهل ستُبقي على سياسة «الغموض البنّاء» أم تعود إلى واجهة الأحداث، وكذلك يعتمد على نجاح أو فشل تشكيل منصة حوار إقليمي جماعية تُعالج الخلافات قبل أن تنفجر.
وهل هذا يُعد تحالف الضرورة أم نقطة الانطلاق لمحور عالمي جديد؟ يعطي التحرك البريطاني-الأسترالي انطباعًا بالقوة، لكن تقييمًا دقيقًا للقدرات العسكرية واللوجستية يكشف أن الحلفاء لا يزالون يحتاجون إلى وقت، وتمويل، وتوافق سياسي أوسع لكي يصبح حضورهم مؤثرًا في المعادلة الإستراتيجية.
لا يمكن اعتبار المناورات مجرد إجراء عرضي أو خطوة دعائية. بل هي انعكاس لتحول حقيقي في كيفية تعاطي الحلفاء التقليديين مع عالم أصبحت فيه أميركا أقل استعدادًا للقيادة المباشرة. تحالف لندن وكانبيرا، ولو كان رمزيًا في بعض جوانبه، إلا أنه يبني جسورًا جديدة لتحالفات دفاعية قد تشكل نواةً لمحور غربي موسع يوازن تمدد بكين شرقًا.
ويبقى السؤال الأهم: هل ستكون هذه الخطوة بداية لمحور دائم ومستقل، أم أنها مجرد رد فعل ظرفي في بحرٍ يموج بالتقلبات والصراعات؟
المصدر: الوفاق