إن ثورة الإمام الحسين عليه السلام ليست حدثًا في الماضي، بل هي وعيٌ دائم، وإرث أخلاقي عالمي يتحدى الظلم في كل زمان ومكان. لقد علّم الحسين الإنسان كيف يموت من أجل العدل، ولكن ما زال على الإنسان أن يتعلم كيف يعيش من أجل العدل، وكيف يصون الحرية، ويُبقي جذوة الإصلاح متقدة. فهي ثورة مستمرة، لا تنطفئ…
في لحظات التاريخ المفصلية، لا تُقاس الأحداث بكثافة الدم المسفوك ولا بعدد الضحايا، بل بقدرتها على إعادة تشكيل الوعي الإنساني وإثارة الأسئلة الكبرى حول معنى الحياة، والعدل، والحرية، والتضحية. ومن بين تلك اللحظات، كربلاء لا تقف مجرد حادثة مأساوية في التاريخ الإسلامي، بل تتحول إلى مرآة كونية يتأمل فيها الإنسان معنى الكرامة، وحدود الطغيان، وجدوى الصمت أمام الظلم.
لم تكن كربلاء نزاعًا سياسيًا ولا خلافًا مذهبيًا، بل كانت صرخة وجودية أطلقها الحسين عليه السلام في وجه كل سلطة تفقد مشروعيتها حين تتحول إلى عبودية. هكذا تخرج كربلاء من كونها ذكرى حزينة لتصبح نظرية متكاملة في الإصلاح، وفلسفة متوهجة في فهم طبيعة السلطة، ومشروعًا أخلاقيًا لتجديد الإنسان.
أدهشني الفيلسوف اليوناني سقراط حين تحدث عن التضحية في أضيق دوائرها: الصداقة، إذ قال: “ليس من الصعب أن تضحي من أجل صديق، لكن من الصعب أن تجد الصديق الذي يستحق التضحية.” عبارة بسيطة لكنها فتحت في داخلي جراحًا فكرية عميقة، وشكّلت صراعًا داخليًا مع صداقات انهارت تحت وطأة الأنانية والتسلط، فتحولت الزمالة إلى مواجهة صامتة، وساحة خاوية من المعنى، نشأ فيها أول شكل من أشكال الاغتراب الإنساني.
وما زاد دهشتي عمقًا ما خطّه المفكر العراقي حسين العادلي في سياق فلسفة التضحية، وهو يقترب من واقعة الطف ودماء سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام، ليصوغ رؤية أخلاقية–فكرية عن معنى الشهادة، حيث قال: الشهادة: تضحية طوعية بموتٍ رائع. المجد دون تضحية: لصوصية. المُضحّي يسع الكون، والأناني لا يسع إلا نفسه.
على قدر التضحية تكون الشجاعة؛ فامتحن المواقف بها. إذا لم يُضحِّ القائد، أصبح الشعب هو الضحية. القائد يضحي من أجلك، والحاكم يضحي بك. أذكى الناس هو المضحي، لأنه يُحوّل ذاته إلى قضية. التضحية كالعطر؛ لا يُخفى ولا يُذم. وبين فلسفة سقراط ومنهج العادلي، يبرز المفكر السياسي إبراهيم العبادي، الذي سبر أغوار فقه الحرية والسلطة، باحثًا عن خريطة طريق لإصلاح واقعٍ مأزوم.
ففي مقاله الموسوم: “الحسين صانع التواريخ ومؤسس فقه الاعتراض والإصلاح”، كتب ابراهيم العبادي: “ومع كل تجربة تخفق، تُستعاد كربلاء برسالتها السياسية وفكرها الإصلاحي، في وجه أولئك الذين ‘اتخذوا عباد الله خَوَلًا ومالَه دُولًا’. يدور التاريخ بين معارضة وسلطة، كلاهما يدّعي الصواب، لكن معيار الحق كان دومًا ملازمًا للعدل والمشورة والمشاركة.
وعندما غاب فقه المقاصد وغُلِّبت حقوق الحاكم على حقوق الناس، تخلّق المواطن العربي بأخلاق المتهرب من كل سلطة، والمتمرد على كل قانون. فأصبحت بعض شعوبنا كالبراكين: تهدأ لتثور من جديد، ودومًا بشعار العدل، لكنه ما يلبث أن يُختطف بشعارات سطحية مثل ‘لا حكم إلا لله’ دون منظومة دولة عادلة تحفظ معاش الناس وأمنهم.”
وهكذا في مناخ التضحية وفقه الاعتراض والإصلاح، تتعالى منهجية الإمام الحسين، منبرًا خالدًا للحرية والثورة، في مواجهة دائمة لدورة الطغيان والاستبداد. إنها ثورة دائمة لا تذوي، مهما اختلفت أقنعة الظلم ومسمياته عبر العصور، إذ تبقى كربلاء هي المعسكر الأخلاقي–الإنساني الذي ينضوي تحته أحرار العالم، ويتصادم مع معسكر الطغاة المتحد، رغم اختلاف أديانهم ومذاهبهم.
فمنهج الحسين في التصدي للطغيان، لم يكن يومًا مجرد فعل سياسي، بل نظرية تحرر شاملة تتحدى الزيف والخداع وتُمهّد لخريطة طريق لا يتبعها إلا الأحرار. ومن هنا يمكن أن نرى تلاقي رموز الحرية في العالم — من تشي غيفارا إلى نيلسون مانديلا إلى الثورة الجزائرية حتى أطفال غزة — مع خط الحسين، في معركة واحدة: الدفاع عن الكرامة الإنسانية، ومحاربة الاستبداد والفصل العنصري والاستغلال.
ختامًا، إن ثورة الإمام الحسين عليه السلام ليست حدثًا في الماضي، بل هي وعيٌ دائم، وإرث أخلاقي عالمي يتحدى الظلم في كل زمان ومكان. لقد علّم الحسين الإنسان كيف يموت من أجل العدل، ولكن ما زال على الإنسان أن يتعلم كيف يعيش من أجل العدل، وكيف يصون الحرية، ويُبقي جذوة الإصلاح متقدة. فهي ثورة مستمرة، لا تنطفئ، ومعسكرها هو كل من يرفض الخضوع لسلطة بلا عدالة، ويؤمن بأن الإنسان لا يُباع ولا يُشترى، لأن الكرامة لا تقبل المساومة.
د. مظهر محمد صالح