المقاومة كأمانة وجودية.. حزب الله بين الذاكرة العاشورائية والتحديات الإقليمية

خاص الوفاق: في كل عام، تعود كربلاء، لا كمأساة تاريخية تُبكى، بل كثورة تُجدد. وفي لبنان، تحديدًا من قلب الضاحية الجنوبية، عُقدت البيعة من جديد، لا بالكلمات وحدها، بل بالموقف، حين ارتقى الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم منبر عاشوراء، ليحوّل خطابه إلى بيان سياسي - جهادي يُحاكي ثورة الإمام الحسين(ع) في معناها الأعمق: "لا استسلام، لا تطبيع، لا مساومة على الدم، والولاء للأمانة حتى الرمق الأخير."

د. أكرم شمص

 

في كل عام، تعود كربلاء، لا كمأساة تاريخية تُبكى، بل كثورة تُجدد. وفي لبنان، تحديدًا من قلب الضاحية الجنوبية، عُقدت البيعة من جديد، لا بالكلمات وحدها، بل بالموقف، حين ارتقى الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم منبر عاشوراء، ليحوّل خطابه إلى بيان سياسي – جهادي يُحاكي ثورة الإمام الحسين(ع) في معناها الأعمق: “لا استسلام، لا تطبيع، لا مساومة على الدم، والولاء للأمانة حتى الرمق الأخير.”

 

لقد جاءت كلماته لتربط الماضي بالحاضر، وتنسج خيوطًا بين طف كربلاء وطف الجنوب، بين سيوف بني أمية وطائرات العدو الصهيوني، وبين صرخة الحسين “هيهات منّا الذلّة” وصوت المقاومة اللبنانية الراهن:
“نحن رجال الميدان، لا نرضى بالذلّ، ولا نسلم السلاح، ولا نخون دماء الشهداء.”

 

1-الموقف استراتيجي لا شعار موسمي

 

كلام الشيخ نعيم قاسم في عاشوراء هذا العام بدا وكأنّه الترجمة الزمنية والسياسية لوصية الشهيد الأسمى السيد حسن نصرالله قبل عام، في عاشوراء الأخيرة له. فحين قال السيد في وصيته: “نُجدِّد بيعتنا للإمام الحسين(ع)… لا نخاف الحرب ولا نخشاها، لأن أقصى ما يمكن أن تأتي به هو الشهادة” كان يُمهّد، بوعي القائد، لاستمرار المسيرة من بعده، واضعًا معيار الثبات في خيار الحسين، لا في حسابات السياسة المتقلبة.

 

واليوم، في المنبر نفسه، والصوت ذاته، والنهج الذي لا يموت، جاء خطاب الشيخ نعيم قاسم ليؤكد: “نحن رجال الميدان، لن نسلم سلاحنا، لن نقبل التطبيع، على العهد باقون، والمقاومة خيار لا تراجع عنه.” كأنما الشهيد الأسمى كتب الكلمة… والخليفة المقاوم قرأها على الناس في زمن النار.

 

2-الحسين(ع) مدرسة الأحرار

 

في الأيام العشرة الأولى من محرم، كان صوت الحسين يُتلى على المنابر؛ لكن في خطاب الشيخ نعيم قاسم، تحوّل هذا الصوت إلى سياسة فعل وموقف مقاوم. لم تكن ذكرى عاشوراء طقسًا دينيًا فقط، بل منصّة سياسية استراتيجية أكد فيها:

 

  • أنّ المقاومة الحسينية مستمرة، تتجسد اليوم في دفاع حزب الله عن لبنان وجهاد أهل غزة وفلسطين واليمن. وفي استبسال الجمهورية الإسلامية الإيرانية في ردّ العدوان الصهيوني.
  • أنّ ما وصفه البعض بـ”تآكل شعبي” للمقاومة تمّ دحضه بالحضور الواسع في المجالس العاشورائية، ردًّا على مراهنات العدو على تعب الداخل.
  • أنّ تحرير الأرض واجب ديني ووطني، ولو طال الزمن، والمقاومة ليست ردّة فعل، بل قرار دائم لا يُعلّق على هدنة أو تسوية.

 

3-المقاومة.. امتداد الحسين(ع) وبيعة الشهداء

 

في خطابٍ لافتٍ ومباشر، جاء قول الشيخ نعيم قاسم: “كيف تريدوننا أن نتوقف، والعدو مستمر بعدوانه الذي لا يمكن أن نسلم به، وفي رقبتنا أمانة الشهداء؟”

 

ليكون أكثر من مجرد رفض للتهدئة، بل بمثابة تثبيتٍ لعقيدةٍ وجودية: أنّ المقاومة ليست خيارًا ظرفيًا، بل إلتزام أخلاقي وتاريخي وشرعي. هذا القول يعكس بوضوح ما يمكن تسميته بـ”فقه المقاومة”، الذي لا يُبنى فقط على معادلات القوة والردع، بل على أمانة الشهداء والدماء التي لا تسقط بالتقادم.

 

ومن أبرز ما جاء في الخطاب أيضًا، هو إعادة تحديد هُويّة المقاومة، لا كحالة حزبية أو وظيفية، بل كنهج متكامل، متجذّر في تاريخ هذه الأرض وهذه الأُمّة.. فهي: مقاومة الإمام موسى الصدر الذي أعلن منذ البداية: “إسرائيل شرّ مطلق والتعامل معها حرام”.

 

وهي مقاومة سيد شهداء الأُمّة السيد حسن نصرالله، الذي لم يكن قائدًا سياسيًا فقط، بل كان شهيدًا حيًّا كتب دمه ودم ولده هادي بقاء هذا النهج.

 

الشيخ قاسم لم يكتفِ بإعلان استمرار المسيرة، بل أضاف إليها شرعية استمرارها، تلك التي لا تستمدّ قوتها من بيانات الأمم المتحدة، ولا من منابر التفاوض، بل من الميدان، من التضحيات، من الشهداء، ومن قناعة ثابتة أنّ بين القتل والاستسلام، هناك طريق ثالث اسمه الحسين: طريق المقاومة.

 

“نحن على العهد، وسنحفظ الأمانة” فهو لا يخاطب فقط جمهور المقاومة، بل يخاطب كل مَنْ ظنّ أنّ الشهادة تُضعف، أو أنّ الزمن يرهق الجبهة، أو أنّ التهديد الأميركي والصهيوني يمكن أن ينتج تراجعًا.
لقد حسم الأمر: لا مساومة على الشهداء.. ولا استسلام في زمن العدوان.. ولا مقاومة بلا هُويّة وعمق إيماني.

 

وهنا يُكمن جوهر الخطاب:

المقاومة ليست فقط ردًّا على عدوان، بل إلتزامٌ بحفظ الأمانة… أمانة الحسين، وأمانة الشهداء، وأمانة الأرض.

 

4-المقاومة خيار… لا أزمة

 

في خطابه العاشورائي، قلب الشيخ نعيم قاسم المعادلة التي يُروِّج لها البعض في الداخل والخارج، مؤكدًا أنّ المقاومة ليست أزمة كما يصوّرون، بل هي الحل البديهي في مواجهة الأزمة الحقيقية: الاحتلال الصهيوني. فالمشكلة ليست في مَنْ يحمل السلاح للدفاع عن الأرض، بل في مَنْ يحتل الأرض وينتهك السيادة يوميًا ويتهرّب من تنفيذ الإتفاقيات الدولية. ولهذا، فإنّ المطالبة بتسليم سلاح المقاومة قبل انسحاب الاحتلال ووقف عدوانه وعودة الأسرى وبدء الإعمار، ليست إلّا محاولة مقلوبة لتحميل الضحية تبعات الجريمة.

 

الشيخ قاسم شدد على أنّ لا نقاش في الاستراتيجية الدفاعية ولا في ملفات السلم والأمن قبل أن يلتزم العدو بتطبيق المرحلة الأُولى من اتفاق وقف إطلاق النار. فالمقاومة ليست مغلقة على الحرب؛ لكنها ترفض أن تُجرّ إلى تسويات مهينة تحت الضغط والتهديد. لأنها تمثل حقًا مشروعًا في وجه احتلال لا يفهم إلّا لغة القوة، ولا يعترف بحقوق أحد ما لم تُفرض عليه فرضًا.

 

5-المقاومة والدولة: شركاء في المواجهة… وشركاء في البناء

 

في كلمة حملت بُعدًا استراتيجيًا، طرح الشيخ نعيم قاسم معادلة جديدة تُظهر حزب الله ليس فقط كقوة مقاومة، بل أيضًا كشريك مسؤول في بناء الدولة، قالها بوضوح: “نحن مستعدون للخيارين: السلم وبناء الدولة، أو المواجهة والدفاع”، في إشارة إلى أنّ المقاومة لا تعيش على هامش الدولة، بل في صلبها، وهي ليست مشروعًا بديلًا لها، بل مكمّل لها في معركة السيادة والاستقرار. هذا الطرح يعكس موقفًا عقلانيًا مزدوجًاً: فحزب الله لا يسعى إلى التصعيد ولا يبني مجده على الحرب؛ لكنه في الوقت ذاته يرفض التفريط بما حُرر، أو أن يتحوّل إلى أداة في مشاريع الخارج.

 

رسالة التوازن هذه تأتي في لحظة سياسية شديدة التعقيد، حيث تُمارَس ضغوط محلية ودولية لدفع المقاومة نحو التنازل، بينما يواصل العدو انتهاكاته دون رادع. وهنا، يؤكد الشيخ قاسم أنّ المقاومة لا تمانع الحوار ولا تخاف من طرح الاستراتيجيات الدفاعية؛ لكنها تشترط بيئة عادلة وسيدة لا تُفرض فيها الحلول تحت التهديد. فحزب الله لا يُعطِّل الدولة، بل يحميها، ولا يُقصي الآخر، بل يدعو إلى الشراكة، شرط أن تُبنى على الثوابت الوطنية، لا على شروط العدو. إنّها دعوة إلى دولة عادلة وقوية، لا مستسلمة ولا تابعة، يكون فيها سلاح المقاومة جزءًا من منظومة الدفاع الوطني، لا عبئًا يُطالب بتفكيكه قبل زوال الخطر.

 

ختاماً: عاشوراء ليست ذكرى، بل برنامج عمل

 

من كربلاء إلى غزة، ومن ضاحية الحسين إلى جرود الجنوب، ومن خندق السيد حسن إلى خندق نعيم قاسم، تستمرّ الثورة الحسينية بأسماء جديدة ورايات متجددة.. والرسالة هذه المرة كانت واضحة: “إنّا على العهد، وإنّا مستمرّون. لن نسلم سلاحنا، ولن نكون جزءًا من شرعنة الاحتلال. خيارنا حسيني… وثورتنا باقية.”

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص