هذه اللحظة ليست مجرد انتصار حزبي، بل تعكس استمرار نفوذ ترامب داخل الحزب الجمهوري، وقدرته على دفع أجندته الاقتصادية رغم الانقسامات الداخلية والخلافات مع الرأي العام والخبراء الماليين.
بنود القانون الجديد.. تحولات هيكلية في السياسات
يُعد مشروع القانون الجديد امتدادًا للسياسات الاقتصادية التي اتبعها ترامب في ولايته الأولى، إذ يشمل عدة محاور رئيسية:
أولًا، يمدد التخفيضات الضريبية التي أُقرت سابقًا، ويضيف إعفاءات جديدة على فوائد قروض السيارات المصنعة محليًا، ما يمنح امتيازات للشركات الأميركية. ثانيًا، يخفض بشكل حاد التمويل المخصص لبرامج الرعاية الصحية والمساعدات الغذائية، بما يتجاوز تريليون دولار من الإنفاق الفيدرالي. ثالثًا، يلغي الإعفاءات الضريبية المرتبطة بالطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية، والتي أُقرت عام 2022 في عهد بايدن.
كما يفرض ضرائب جديدة بنسبة 8% على صافي دخل الاستثمار في الجامعات الخاصة ذات الأوقاف الضخمة، مثل هارفارد، ويشدد شروط الأهلية لبرنامج Medicaid، بإضافة متطلبات عمل للمستفيدين ذوي الدخل المنخفض، ويحد من قدرة الولايات على فرض ضرائب على مقدّمي الرعاية الصحية لتمويل البرنامج.
تقديرات الميزانية.. فجوة بين الواقع والوعود
وفق تحليل مكتب الميزانية في الكونغرس، القانون سيؤدي إلى فقدان نحو 11.8 مليون أميركي لتأمينهم الصحي بحلول عام 2034، وسيضيف قرابة 3.3 تريليون دولار إلى الدين الوطني في العقد المقبل. هذه الأرقام تُشكّك في الرواية الرسمية للبيت الأبيض، التي تعتبر أن القانون سيؤدي إلى خفض العجز بما يزيد على خمسة تريليونات دولار إذا ما تم دمجه مع جهود تحفيز اقتصادي أخرى.
مذكرة صادرة عن البيت الأبيض، ونقلتها صحيفة «واشنطن بوست»، ترى أن توقعات مكتب الميزانية «مضللة»، لأنها تفترض انتهاء التخفيضات الضريبية السابقة دون تعديل. وتزعم أن القانون الجديد وحده سيقلّص العجز بقرابة 1.4 تريليون دولار، نتيجة تحفيز النمو، لكن خبراء الميزانية من مختلف الأطياف السياسية، وحتى في «وول ستريت»، يشكّكون بشدة في هذه الادّعاءات، ويعتبرونها أقرب للترويج السياسي منها إلى التحليل الواقعي.
التأثيرات على الطبقة العاملة.. ضريبة غير معلنة
وفق تقارير «ذي غارديان»، القانون يمثل سياسة «روبن هود العكسية» بامتياز، إذ تُسحب الامتيازات من الفقراء وتُمنح للأثرياء. الأميركيون الذين يقل دخلهم السنوي عن خمسين ألف دولار، وهم حوالي 30% من السكان، سيتعرضون لانخفاض سنوي يُقدر بـ1600 دولار، أي بنسبة 3.9%. في المقابل، الأسر الغنية ستجني زيادة تصل إلى 12 ألف دولار سنويًا نتيجة التخفيضات الضريبية الجديدة. وبذلك، تتضح هوية الفائزين والخاسرين من هذا التشريع، إذ يغذّي اتساع الفجوة الطبقية ويهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع الأميركي.
التراجع في الطاقة النظيفة والوظائف الصناعية
إلغاء الحوافز المرتبطة بالطاقة النظيفة ليس مجرد إجراء مالي، بل يُهدد مستقبل الصناعات البيئية التي نشأت في عهد بايدن، ويعرض مئات الآلاف من الوظائف للخطر، خاصةً في المصانع التي كانت تعتمد على مشاريع المناخ والسيارات الكهربائية. هذا القرار يُضعف التزام الولايات المتحدة بالتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون، ويمنح الأسبقية للسياسات الصناعية التقليدية ذات الأثر البيئي السلبي، في تناقض واضح مع الاتجاه العالمي نحو الاستدامة.
الحروب التجارية كبديل للتوازن المالي
ترامب، الذي يسعى لتعويض خسائر الموازنة عبر الرسوم الجمركية، يُراهن على جذب تريليونات الدولارات من الدول الأخرى. فهو يحاول ابتزاز الدول في جميع أنحاء العالم لانتزاع تنازلات تجارية منها، كسبيل، على الأرجح، لتعويض الخسائر الناجمة عن مشاريع قوانين مماثلة، فإنّ العديد من المراقبين يحذّرون من أنّ الاستراتيجية المُشار إليها غير مضمونة إلى حدّ بعيد، كما أن الدول المستهدفة قد ترد بإجراءات انتقامية، مما يعقّد المشهد ويحوّل الحروب التجارية إلى مغامرة غير مضمونة.
وكان مستشار البيت الأبيض للتجارة، بيتر نافارو، قد أشار إلى أن الرسوم الجمركية ستولّد ما بين 6 و7 تريليونات دولار على مدى عشر سنوات، فيما أكّد وزير الخزانة، سكوت بيسنت، أن الرسوم الجمركية قد تجلب ما بين 300 مليار دولار و600 مليار دولار سنوياً.
على أنّه طبقاً لما ذكرته وكالة بلومبرغ، فإن الجهود التي تبذلها إدارة ترامب للتفاوض على صفقات تجارية مع دول محدّدة، تخلق الكثير من عدم اليقين حول مقدار الإيرادات التي ستولّدها الرسوم فعلياً؛ إذ يتوقّع معظم الاقتصاديين أن هذه الأخيرة ستنتج أقل بكثير من الإيرادات المفقودة على مدى عقد من الزمن، والتي سيتسبب بها مشروع قانون الضرائب والإنفاق. كما يتوقّع هؤلاء أن يعارض المستهلكون ارتفاع الأسعار وأن تنخفض الواردات، ما سيؤدي إلى تحصيل الولايات المتحدة إيرادات أقل من التعرفات الجمركية.
التداعيات السياسية والانتخابية
بينما يحاول ترامب الترويج لمشروع القانون باعتباره انتصارًا اقتصاديًا، يظهر في الواقع أنه يُفقده شعبية بين الفئات التي كانت تُعتبر قاعدة دعم رئيسية له. الطبقة العاملة، التي أوصلته للرئاسة في مواجهة «كامالا هاريس»، تشعر الآن بالخيانة، نتيجة سياسات تؤدي إلى تقليص شبكات الأمان الاجتماعي والإضرار بمصالحها المباشرة.
خبراء السياسة الاجتماعية يرون أن هذا القانون يُعرّي التناقض في خطاب ترامب، ويُظهره بمظهر من يخدم الأثرياء رغم وعوده السابقة بالدفاع عن العمال والفقراء. رئيسة مركز الميزانية وأولويات السياسة، شارون باروت، تساءلت: «من الذي سيتضرر؟ إنهم الأشخاص ذوو الدخل المنخفض، الذين وُعدوا بالحماية والدعم في الانتخابات الأخيرة». مشروع «القانون الكبير والجميل» ليس مجرد وثيقة مالية، بل يُمثل توجهًا فكريًا وسياسيًا يعيد تشكيل اقتصاد الدولة على أساس من التمييز الاجتماعي. وبينما يرى الرئيس ترامب أن القانون سيحفّز النمو ويقلّص العجز، تشير الأرقام والتحليلات إلى أنه قد يُعمّق الدين الوطني، يُضعف الطبقة الوسطى، ويُضر بمستقبل الطاقة النظيفة. وفي ظل انقسامات سياسية حادة وتحديات اقتصادية متصاعدة، تبقى نتائج هذا القانون مرهونة بقدرة الشعب الأميركي على المواجهة، والمساءلة، والتغيير في صناديق الاقتراع.