تقرير أممي يفضح تجارة الدم؛

غزة تتحول إلى مسرح لتقنيات القتل والربح

خاص الوفاق: تقرير ألبانيز يكشف كيف تحولت الإبادة إلى منظومة اقتصادية، تديرها شركات متععدة الجنسيات وتشرعها مؤسسات أكاديمية، وتمولها بنوك كبرى، بينما يقدم الفلسطينيون كأرقام في قاعدة بيانات الربح والخسارة.

في عالم يُفترض أن تسوده المواثيق الدولية والضمير الإنساني، جاءت وثيقة أممية تثير القلق بشأن الواقع الإنساني في غزة. التقرير الصادر عن المقررة الخاصة للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، والمعنون بـ «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية»، يكشف عن تحول غزة من منطقة محاصرة إلى نموذج ربحي متكامل، تُستغل فيه التكنولوجيا، ورؤوس الأموال، والمؤسسات الأكاديمية، كأدوات فعّالة في خدمة نظام قمعي.فلم تعد الحرب الصهيونية على غزة مجرد نزاع سياسي أو عسكري، بل تحوّلت إلى صناعة عالمية تشارك فيها شركات كبرى وجامعات مرموقة، فيما أصبح الفلسطينيون موضوع تجربة حية في مختبر مفتوح. وبينما تصر الولايات المتحدة وكيان العدو على إسكات «ألبانيز» وعزلها من منصبها، ارتفعت أصوات اقتصاديين عالميين مرموقين أمثال يانيس فاروفاكيس، وتوماس بيكيتي، ونسيم نيكولاس طالب، مؤكدين دعمهم الكامل للتقرير، ورافضين التواطؤ الذي يربط الرأسمال العالمي بآلة الحرب في غزة.
غزة مختبر دموي لإقتصاد الإبادة
صدر التقرير في الدورة الـ59 لمجلس حقوق الإنسان، ويعتمد على أكثر من 200 مصدر موثّق، بينها تقارير دولية، ومقالات بحثية، ومعلومات مسرّبة، ليكشف أن الاحتلال الصهيوني تجاوز شكله العسكري التقليدي، وتحول إلى نظام اقتصادي يدير آلة إبادة جماعية مدفوعة الربح. 

ويرى التقرير أن كيان العدو لا يستهدف الفلسطينيين فقط بالقوة العسكرية، بل يستخدم أراضيهم وسكانهم لتجربة أدواته القتالية والتكنولوجية، ثم يسوّق تلك الأدوات دوليًا كمنتجات «مجرّبة ميدانيًا». بهذا الشكل، تُصبح الحرب أداة للتسويق، ويصبح القتل الجماعي قاعدة بيانات لصناعات الذكاء الاصطناعي والمراقبة، ما يجعل غزة مختبرًا مفتوحًا لاقتصاد دموي يتربّح من الألم.

 

حين يصبح الإقتصاد شريكًا في الإبادة

 

التقرير يتوسّع في كشف تورط عشرات الشركات الكبرى في دعم الاحتلال الصهيوني، ليس فقط بتقديم خدمات، بل بالمشاركة الفعلية في عمليات قتل وتدمير وتجريب على البشر وهي شركة غوغل وأمازون، في إطار عقد «نيمبوس» واللتان توفّران بنية سحابية متقدمة للحكومة الصهيونية، تُستخدم في جمع المعلومات ومراقبة السكان عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، المشروع نفسه يخدم أنظمة تحديد الأهداف القتالية، في سياق «القتل الخوارزمي».

 

أمّا شركتا مايكروسوفت  و IBM  فتُسهمان في تطوير أدوات تحليل بيانات ميدانية يستخدمها كيان العدو في ضرب أهداف مدنية عبر تطبيقات مثل «Lavender» و«Gospel»، والتي تستخدم لتحديد الأشخاص المطلوبين وتصنيفهم آليًا على أنهم تهديدات. أمّا شركات لوكهيد مارتن، وIAI، وإلبيت سيستمز، فقد منحت العدو الصهيوني ترسانة هائلة من الأسلحة، بما فيها طائرات F-35 التي تم تعديلها لتعمل في «وضع الوحش»، أي نمط القصف الشامل. هذا النمط استخدم في غزة بكثافة، وأدى إلى تدمير عشرات الأحياء السكنية وإزهاق أرواح الآلاف من المدنيين.

 

أمّا شركات البناء مثل كاتربيلر، وفولفو، وهيونداي، فقد زوّدت الاحتلال بمعدات تُستخدم في هدم البيوت، وردم الأنفاق، وتدمير البنية التحتية، وهي عمليات موثقة على نطاق واسع، وتُعد من أدوات التطهير الجغرافي والسكاني .وشركات الطاقة مثل شيفرون، وBP، وفّرت الوقود والغاز المستخدم في فرض الحصار، بينما استثمرت مؤسسات مالية مثل بلاك روك، وBNP Paribas، في سندات صهيونية تموّل العمليات العسكرية، ما يربط العنف مباشرة برأس المال العالمي.

 

المعرفة في خدمة القمع

 

ما يثير القلق أكثر هو تورط الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الغربية في تمويل وتطوير أدوات الإبادة، تحت غطاء التعاون البحثي. التقرير يذكر أن مؤسسات مثل معهد MIT الأميركي، وجامعة ميونيخ التقنية الألمانية، تُجري أبحاثًا مشتركة مع الجيش الصهيوني، بعضها ممول من وزارات دفاع غربية.

 

كما يستند التقرير إلى بيانات تشير إلى أن برنامج Horizon Europe، التابع للمفوضية الأوروبية، قدّم أكثر من 2.4 مليار دولار لمؤسسات صهيونية بين 2014 و2024، معظمها موجه لتطوير تقنيات مراقبة واستهداف وتحليل عسكري، وهو ما يتناقض مع معايير حقوق الإنسان التي يُفترض أن تلتزم بها هذه الدول.

 

الجامعات لم تعد مجرد مؤسسات تعليمية محايدة، بل أصبحت جزءًا من منظومة استغلال سياسي واقتصادي، تُخضع المعرفة لأهداف عسكرية، وتُهمّش الأصوات المعارضة داخل الحرم الجامعي بإسم الحياد الأكاديمي.

 

حين يتكلم الضمير العالمي

 

في ظل حملة تشويه وتضييق تقودها الولايات المتحدة والعدو الصهيوني ضد «فرانشيسكا ألبانيز»، برزت رسالة مفتوحة وقّعها عدد من الاقتصاديين المعروفين، تُعبّر عن دعمهم الكامل للتقرير وللمقررة الأممية، وتطالب الأمم المتحدة برفض الضغوط السياسية لإسكاتها.

 

كتب «فاروفاكيس» أن التقرير يكشف «أخطر أشكال الاستثمار في الموت»، فيما اعتبر «بيكيتي» أن العلاقة بين رأس المال والقتل يجب أن تُناقش بعمق في المحافل الاقتصادية العالمية، وقال «طالب» إن إسكات ألبانيز يعني ضرب مصداقية الأمم المتحدة من جذورها. هذا الدعم لا يقتصر على الرمزية، بل يشير إلى أن هناك تحولًا في وعي الاقتصاديين والباحثين حول دور الشركات والمؤسسات الكبرى في تأجيج الصراعات، وتحويل الحرب إلى صناعة ذات ربح مستدام.

 

البُعد القانوني.. بين المساءلة والتقاعس الدولي

 

يرتكز تقرير ألبانيز إلى اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، ويصنف ما يحدث في غزة على أنه ينطبق على عدة بنود قانونية دولية، منها القتل العمد، والتسبب بأذى نفسي وجسدي جسيم، وفرض ظروف حياتية تؤدي إلى تدمير جماعة بشرية بالكامل. بناءً على هذا التصنيف، يدعو التقرير إلى اتخاذ إجراءات قانونية بحق الشركات التي شاركت في هذه الجرائم، سواء عبر تزويد الاحتلال بالمواد والأدوات أو عبر دعم البنية التقنية العسكرية. هذه الإجراءات تشمل المطالبة بحظر بيع الأسلحة، وتعليق الشراكات التجارية، وملاحقة المديرين التنفيذيين في المحاكم الدولية، باعتبارهم فاعلين في الإبادة الجماعية. لكن الواقع يعكس تقاعسًا سياسيًا ودبلوماسيًا، فغالبًا ما تعترض الدول ذات المصالح المباشرة على هذه المساءلات، وتُمارس الضغوط لمنع صدور قرارات ملزمة. وهو ما يجعل الحراك الشعبي والحملات الحقوقية الوسيلة الأهم لدفع عملية المحاسبة.

 

اقتصاد خاضع للاستنزاف والقهر

 

النتائج الاقتصادية للإبادة ليست هامشية، بل مركزية. يقدّر الخبراء أن الاقتصاد الفلسطيني يخسر أكثر من 35% من الناتج المحلي سنويًا بسبب الحصار والاستغلال الصهيوني. معظم الموارد الطبيعية، من المياه إلى الغاز والكهرباء، تقع تحت السيطرة الصهيونية، ما يحوّل سكان غزة إلى «مستهلكين أُسراء» ضمن سوق مُحتكَر من جهة الاحتلال.

 

البنية التحتية مدمّرة، ومعدلات البطالة والفقر وصلت إلى أكثر من 70%. حتى المساعدات الإنسانية تُستخدم كأدوات ضغط سياسي، بينما ترتفع أرباح الشركات الصهيونية والدولية العاملة في غزة. بورصة تل أبيب نفسها ارتفعت بنسبة تزيد عن 200% منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، ما يؤكد أن الحرب باتت ذات عوائد اقتصادية ملموسة لمستثمرين عالميين.

 

الردود الدولية.. بين التنديد الشعبي والدعم الرسمي

 

كيان العدو والولايات المتحدة لم تكتفيا برفض التقرير، بل شنّتا حملة إعلامية لتشويه صورة المقررة الأممية «فرانشيسكا ألبانيز»، متهمتين إياها بالتحيّز ومعاداة السامية، ومحاولتين الضغط لإقالتها من منصبها. غير أن المجتمع المدني العالمي شهد تناميًا في الدعم الشعبي لعملها، خاصةً من منظمات حقوقية، ونقابات أكاديمية، وحركات مقاطعة مثل حركة BDS، التي اعتبرت التقرير دعوة واضحة لتصعيد الضغط على الشركات والمؤسسات التي تربح من القتل والاستعمار.

 

ففي جامعات أميركية وأوروبية عديدة، نظم طلاب وأكاديميون وقفات تضامنية ومؤتمرات عاجلة لمطالبة إداراتهم بقطع العلاقات مع مؤسسات صهيونية متورطة. كما أُطلق عدد من العرائض لسحب الاستثمارات الجامعية من شركات تساهم في الاحتلال، مثل أمازون وغوغل ومايكروسوفت. من ناحية أخرى، بدأت حركات مثل «Palestine Action» و«Codepink» بشن حملات مدنية ضد مصانع الأسلحة والمقرات الإدارية لتلك الشركات، معتبرين أن المقاطعة والمقاومة المدنية الوسيلتان الأكثر فعالية في غياب الإرادة السياسية للمساءلة الدولية.

 

صرخة سياسية وأخلاقية تكشف المستور

 

ليس تقرير ألبانيز مجرد وثيقة حقوقية، بل هو صرخة سياسية وأخلاقية تكشف المستور في العصر الحديث؛ كيف تحوّلت الإبادة إلى منظومة اقتصادية، تديرها شركات متعددة الجنسيات، وتُشرّعها مؤسسات أكاديمية، وتُموّلها بنوك كبرى، بينما يُقدَّم الفلسطينيون كأرقام في قاعدة بيانات الربح والخسارة.

 

في النهاية، تبقى هذه الوثيقة فرصة نادرة لكشف شبكة عالمية تبيع التكنولوجيا باسم الابتكار، وتشتري الموت بإسم الأمن، وتحكم على شعوب بالحياة داخل مختبرات الخراب. وما لم يتحرك العالم من الإدانات إلى المحاسبة، فإن الحرب ستظل تجارة مزدهرة، ودم غزة سيبقى وقودًا لرأس المال المستعر.

 

 

المصدر: الوفاق