بعد موجة تسريح الموظفين

خطة ترامب؛ تفكيك الدولة العميقة أم تقليص النفوذ

يعتبر مراقبون هذا القرار امتدادً لمحاولة ترامب إحكام السيطرة على مفاصل الإدارة الفيدرالية بهدف إزالة ما يصفه بالعوائق البيروقراطية أمام تطبيق رؤيته الخارجية

في خطوة مثيرة للجدل، بدأت وزارة الخارجية الأميركية تنفيذ خطة تسريح لأكثر من 1350 موظفاً من العاملين في الداخل، ضمن خطة إعادة هيكلة غير مسبوقة تقودها إدارة دونالد ترامب. هذه الخطوة، التي تأتي تحت شعار «أميركا أولاً»، أثارت موجة من الجدل بين مؤيدين يرون فيها ضرورة لتحديث الجهاز الحكومي، ومعارضين يحذرون من تداعياتها على قدرة الولايات المتحدة في التعامل مع التحديات الدولية. فهل تُمثل هذه الخطوة إصلاحاً إدارياً أم بداية لانحسار الدور الأميركي في العالم؟

 

«أميركا أولاً»؛ رؤية إدارية أم عقيدة سياسية؟

 

في فبراير/ شباط 2025، أصدر ترامب أمراً تنفيذياً ينص على تقليص عدد موظفي الحكومة الفيدرالية وتوجيه الموارد إلى أولويات السياسة الخارجية. جاءت الخطوة كجزء من حملة إعادة تشكيل البيروقراطية الاتحادية، شملت وزارات ومؤسسات أخرى، أبرزها وزارة التعليم والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، ما يدلّ على رؤية شاملة تهدف إلى تقليص «الدولة العميقة» كما يصفها ترامب.

 

التسريح الكبير؛ ماذا حدث بالفعل؟

 

وفق إشعار داخلي اطّلعت عليه وكالات إعلامية، فإن وزارة الخارجية بدأت بتسريح 1107 موظفين من الخدمة المدنية، إضافة إلى 246 من السلك الدبلوماسي داخل الولايات المتحدة. تلقى الموظفون إشعارات رسمية عبر البريد الإلكتروني، وتم وضع بعضهم في إجازة إدارية لمدة تتراوح بين 60 و120 يوماً قبل إنهاء الخدمة. الوزارة أكدت أن التخفيضات «صُممت بعناية» لاستهداف الوظائف غير الأساسية والمكاتب المكررة أو الزائدة عن الحاجة. ووفقاً لما أكدته الوزارة، مشيرة إلى أن التصميم جرى «بعناية» لضمان ألا يتأثر الأداء الجوهر للدبلوماسية الأميركية.

 

رفع الكفاءة أم تقليص الإنفاق؟

 

إدارة ترامب تُبرر القرار بأنه يهدف إلى تبسيط العمليات الإدارية والتركيز على أولويات السياسة الخارجية، كما عبّر وزير الخارجية ماركو روبيو. ووفقاً للتصريحات الرسمية، فإن هذه الخطوة ستقلل من إهدار أموال دافعي الضرائب، وتجعل الوزارة أكثر مرونة وسرعة في اتخاذ القرار. في المقابل، يرى منتقدون أن الكفاءة لا تتحقق فقط بتقليص العدد، بل تحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة وتحديث أدوات العمل الإداري.

 

ردود الفعل الداخلية

 

دبلوماسيون سابقون ومسؤولون حذروا من أن تقليص الجهاز الدبلوماسي بهذا الشكل قد يضعف قدرة واشنطن على مواجهة تحديات دولية كبرى، مثل تنامي نفوذ الصين وروسيا، والحرب في أوكرانيا. رابطة موظفي الخدمة الخارجية وصفت القرار بأنه «ضربة كارثية للمصالح الوطنية»، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة تختار تقليص قوتها الدبلوماسية في لحظة عدم استقرار عالمي. فغياب الخبرات المتراكمة لدى الموظفين المسرّحين قد يخلق فجوة في إدارة الملفات المعقدة، ويضعف التنسيق مع الحلفاء والشركاء الدوليين.

 

رفع دعاوى قضائية

 

تسبب القرار في رفع دعاوى قضائية، ما أدى إلى تأخير التنفيذ حتى يوليو/ تموز رغم أن الخطة كانت مقررة سابقاً في بداية الشهر نفسه. المحكمة العليا الأميركية أصدرت قراراً يمنح الإدارة الضوء الأخضر للمضي قدماً في عمليات التسريح، ما يمهد الطريق لفصل عشرات الآلاف من الموظفين في وكالات فيدرالية أخرى أيضاً.

 

رسالة للداخل أم للخارج؟

 

المراقبون يعتبرون هذه الخطوة امتداداً لمحاولة ترامب إحكام السيطرة على مفاصل الإدارة الفيدرالية، بهدف إزالة ما يصفه بـ»العوائق البيروقراطية» أمام تطبيق رؤيته الخارجية. كما أن التخفيضات شملت مكاتب حساسة، مثل شؤون اللاجئين وحقوق الإنسان، مما أثار قلقاً في الأوساط الحقوقية والمؤسسات الدولية، التي تخشى أن يؤدي ذلك إلى تراجع الدور الأميركي في الدفاع عن القضايا الإنسانية.

 

أبرز المخاوف المطروحة

 

من أبرز المخاوف المطروحة أن تقليص عدد الدبلوماسيين قد يؤدي إلى ضعف التمثيل الأميركي في المحافل الدولية، وانخفاض قدرة الولايات المتحدة على الوساطة وحل النزاعات. فالدبلوماسية ليست مجرد إجراءات إدارية، بل علاقات متشابكة وخبرات طويلة، لا يمكن تعويضها بسهولة. كما يُخشى أن يؤثر القرار في الاستجابة للأزمات العالمية أو التفاعل مع الشركاء الدوليين.

 

هذا ولم تشهد وزارة الخارجية الأميركية على مدى تاريخها الحديث تسريحاً بهذا الحجم، حتى في أوقات التقشف والضغط المالي. عادةً ما كانت إجراءات التقليص تتم بشكل تدريجي وبالتشاور مع الكونغرس، أما الآن فالأمر جاء بشكل مفاجئ ومركّز، ما جعله محط أنظار الإعلام والمحللين السياسيين.

 

التفاعل الدولي

 

منظمات مثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان طالبت واشنطن بمراجعة سياساتها المتعلقة بالعقوبات والملفات الإنسانية، مؤكدة أن التقليص قد يضعف الدور الأميركي في ملفات مهمة، مثل العقوبات على روسيا. وتخشى العديد من الدول أن يؤدي القرار إلى تقليص التنسيق في برامج المساعدات، والتعاون في مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية.

 

من أكثر القرارات إثارة للجدل

 

بين من يرى أن الخطوة ضرورية لإصلاح جهاز دبلوماسي يعاني من الترهل، ومن يرى أنها تهدد النفوذ العالمي لواشنطن، تبقى خطة تقليص وزارة الخارجية الأميركية برعاية ترامب واحدة من أكثر قراراته إثارة للجدل. فهل يمكن إعادة هيكلة الوزارة دون أن تفقد الولايات المتحدة صوتها في العالم؟ وهل الكفاءة وحدها تكفي إن غابت الخبرة والعلاقات؟ الدبلوماسية هي قلب الدولة، وتقليص هذا القلب يحمل معه رهانات كبيرة، قد تحدد مستقبل أميركا على الساحة الدولية لعقود قادمة.

 

 

المصدر: الوفاق

الاخبار ذات الصلة