تحالف الضرورة..

فرنسا وبريطانيا؛ في مواجهة تحديات ما بعد البريكست

زيارة ماكرون إلى لندن لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل كانت إعلاناً عن مرحلة جديدة في العلاقات الفرنسية البريطانية عنوانها "تحالف الضرورة".

 

 في لحظة سياسية فارقة، شهدت العاصمة البريطانية لندن زيارة دولة غير مسبوقة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، استمرت ثلاثة أيام، حملت في طياتها رسائل متعددة الأبعاد. هذه الزيارة لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل جاءت لتعيد رسم خارطة العلاقات بين الحليفين الأوروبيين، فرنسا والمملكة المتحدة، بعد سنوات من التوتر الذي أعقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في ظل التحديات العالمية المتزايدة، من الهجرة إلى الطاقة، ومن الأمن النووي إلى الحرب في أوكرانيا، برزت الحاجة إلى تحالف جديد قائم على الضرورة، يتجاوز الخلافات التاريخية ويؤسس لشراكة استراتيجية متعددة المستويات.
الهجرة؛ اتفاق تجريبي في مواجهة أزمة متفاقمة
أحد أبرز الملفات التي تصدرت جدول أعمال اللقاءات بين ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني «كر ستارمر» كان ملف الهجرة غير النظامية، الذي بات يشكل تحدياً سياسياً وأمنياً لكِلا البلدين. الاتفاق الذي تم التوصل إليه، والمعروف باسم «واحد مقابل واحد»، يهدف إلى إعادة المهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى بريطانيا عبر القنال الإنجليزي إلى فرنسا، مقابل قبول بريطانيا لطالبي لجوء من فرنسا لديهم روابط عائلية بالمملكة المتحدة. هذا الترتيب، الذي وصفه «ستارمر» بأنه ثوري، يسعى إلى كسر نموذج عمل مهربي البشر وردع محاولات العبور غير النظامي، في وقت تتزايد فيه الضغوط السياسية من التيارات اليمينية المتطرفة في كِلا البلدين. ورغم أن الاتفاق لا يزال في مرحلته التجريبية، فإن التوقعات تشير إلى إعادة حوالي خمسين مهاجراً أسبوعياً، وهو رقم أثار جدلاً واسعاً حول مدى فعالية هذا النموذج، خاصةً في ظل التحديات القانونية المتعلقة بتحديد من يحق له العودة إلى فرنسا، وموقف الدول الأوروبية الأخرى من إعادة المهاجرين. ماكرون من جهته عبّر عن ثقته بأن الاتفاق سيكون له أثر رادع يتجاوز مجرد الأرقام، مشيراً إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جعل من الصعب عليها معالجة الهجرة غير الشرعية بمفردها، وأن الشعب البريطاني قد تم تضليله حين قيل له إن المشكلة كانت أوروبا.
 شراكة متعثرة ومصالح متشابكة
الملف الثاني الذي حظي باهتمام كبير خلال الزيارة كان مشاريع الطاقة النووية المدنية، التي لطالما شكلت أحد ركائز العلاقة بين البلدين. منذ اتفاق عام 2008 بين جوردون براون ونيكولا ساركوزي، تولت شركة الطاقة الفرنسية «EDF» توسعة محطتي «هينكلي» و«سيزويل» في بريطانيا، في ما اعتُبر حينها عصر الطاقة النووية المدنية الذهبي. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تأخراً في التنفيذ وتضخماً في التكاليف، ما اضطر الحكومة البريطانية إلى ضخ 14.2 مليار جنيه إضافية لمحطة «سيزويل»، بينما تعثر مشروع «هينكلي» بسبب غياب التمويل الخاص. هذا الوضع جعل بريطانيا في موقع تفاوضي أضعف، خاصة أنها بحاجة ماسة للطاقة، لكنها ترفض الاعتماد على الصين في هذا القطاع الحيوي، ما يمنح فرنسا ورقة ضغط قوية بانتظار استثمارات بريطانية جديدة لدفع المشاريع قدماً.
تنسيق غير مسبوق في ظل الغموض الأميركي
في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وتصاعد التهديدات الروسية، برز ملف التعاون الدفاعي بين باريس ولندن كأولوية قصوى. الزعيمان أعلنا عن اتفاق لتنسيق الردع النووي بين البلدين، بما يشمل تعبئة الأسلحة بشكل مشترك في حال وقوع هجوم يستدعي ردًا نوويًا. هذا التنسيق يمثل تحولاً كبيراً في العقيدة الدفاعية الأوروبية، ويعكس رغبة في بناء مظلة نووية مستقلة عن واشنطن، خاصة في ظل الغموض الذي يحيط بالتزامات الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب. كما شمل الاتفاق تعزيز التعاون في تطوير صواريخ كروز وصواريخ مضادة للسفن، وإنشاء قوة عسكرية مشتركة قوامها نحو خمسين ألف جندي ضمن «تحالف الراغبين»، الذي يهدف إلى دعم أوكرانيا وضمان تنفيذ أي اتفاق مستقبلي لوقف إطلاق النار. هذا التحالف، الذي تقوده باريس ولندن، يمثل محاولة أوروبية لتجاوز التردد الأميركي في دعم كييف، ويعكس إدراكاً متزايداً بأن الأمن الأوروبي يجب أن يكون مسؤولية أوروبية بالدرجة الأولى.
 تقليص الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية
بعيداً عن الملفات الأمنية، اتفقت باريس ولندن على تعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، من الحواسيب الفائقة إلى الذكاء الاصطناعي، مروراً بأنظمة الملاحة الدقيقة لحماية البنية التحتية الحيوية. هذا التعاون يعكس تحولاً في الرؤية الأوروبية نحو بناء اقتصاد قائم على الابتكار والمعرفة، وتقليص الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية والصينية، في إطار مشروع «الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي» الذي يقوده ماكرون. كما أن هذا التعاون يهدف إلى دعم النمو الاقتصادي وتعزيز الأمن السيبراني، في وقت تتزايد فيه التهديدات الرقمية والهجمات الإلكترونية على المؤسسات الحيوية.
التجارة بعد البريكست؛ محاولة لإنعاش التبادلات الثنائية
الملف التجاري لم يكن غائباً عن محادثات الرئيسين الفرنسي والبريطاني، خاصةً في ظل التراجع الكبير في صادرات بريطانيا إلى أوروبا بعد البريكست، بما في ذلك فرنسا التي تُعد خامس أكبر شريك تجاري للمملكة المتحدة. العجز التجاري بين البلدين بلغ نحو 12 مليار جنيه العام الماضي، ما دفع رجال الأعمال في كِلا البلدين إلى التعويل على هذه الزيارة لإحياء النشاط التجاري وتذليل العقبات التي خلفها الانفصال البريطاني عن الاتحاد الأوروبي. ورغم توقيع «صفقة إعادة تنظيم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي» في أيار/ مايو الماضي، فإن التبادلات لا تزال أقل من مستوياتها السابقة، ما يستدعي جهوداً إضافية لإعادة الحيوية إلى التجارة عبر القنال الإنجليزي.
السياسة الداخلية واليمين المتطرف
الزيارة لم تكن بمعزل عن السياق السياسي الداخلي في كِلا البلدين، حيث يواجه ماكرون وستارمر ضغوطاً متزايدة من التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة، مثل «التجمع الوطني» في فرنسا و«حزب الإصلاح» في بريطانيا. في بيانهما المشترك، دعا الزعيمان إلى التمسك بالتعاون والصبر السياسي، مؤكدين أن النتائج الحقيقية لا تأتي إلا عبر البراغماتية لا عبر الشعارات الرنانة. كما شددا على ضرورة الاعتراف بتعقيد العالم وتجنب السياسات ذات الإجابات السهلة التي تروجها الحركات الشعبوية، في محاولة لتقديم نموذج سياسي عقلاني يستجيب لتطلعات الشعوب دون الانجرار وراء الخطابات المتطرفة.
تحالف الضرورة في عالم متغير
زيارة ماكرون إلى لندن لم تكن مجرد حدث بروتوكولي، بل كانت إعلاناً عن مرحلة جديدة في العلاقات الفرنسية البريطانية، عنوانها «تحالف الضرورة». في عالم تتزايد فيه التحديات الأمنية والاقتصادية، وتتعاظم فيه المخاوف من الانعزالية والشعبوية، اختار الرئيسان البريطاني والفرنسي طريق التعاون والتنسيق، ولو كان ذلك على حساب بعض التباينات التاريخية. هذا التحالف لا يهدف فقط إلى معالجة الملفات العالقة، بل يسعى إلى بناء نموذج أوروبي جديد في مواجهة الغموض الأميركي، والتوسع الروسي، والتحديات العالمية المتسارعة. وبينما لا تزال الطريق طويلة، فإن الخطوة الأولى قد تم اتخاذها، وربما تكون هذه الزيارة بداية لعصر جديد من الشراكة الأوروبية الحقيقية.
المصدر: الوفاق