في عالم تزدحم فيه التحولات الجيوسياسية وتتبدل فيه موازين القوى بسرعة غير مسبوقة، باتت القمم الدولية أكثر من مجرد تجمعات دبلوماسية أو مراسم بروتوكولية. إنها منصات تُعاد عبرها هندسة النفوذ العالمي، وتتشكّل فيها خرائط المستقبل. من هنا، جاء انعقاد القمة الأميركية – الأفريقية المصغّرة في العاصمة الأمريكية واشنطن بين 9 و11 يوليو/ تموز 2025، وسط زخم دولي وسباق محموم على الموارد الأفريقية، لتحمل في طياتها دلالات أعمق من مخرجاتها الظاهرة. حضرها قادة خمس دول أفريقية: موريتانيا، ليبيريا، السنغال، غينيا بيساو، والغابون. وبين عروض الاستثمار الأميركية وسلوك دونالد ترامب الاستعراضي، تُطرح تساؤلات: هل كانت القمة بوابة لشراكة حقيقية؟ أم إعادة إنتاج لنهب مقنّع تحت عباءة الدبلوماسية الاقتصادية؟
تحوّل في العقيدة الأميركية؛ من المساعدات إلى التجارة
كانت المفاجأة الكبرى في إعلان ترامب إغلاق «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID)، التي لطالما مثّلت ذراع واشنطن التنموي في أفريقيا، وتنفق ما يقارب 40% من ميزانيتها السنوية على دول جنوب الصحراء. هذا الإغلاق لم يكن إجراءً إداريًا عابرًا، بل يُجسّد تحولًا في العقيدة الأميركية تجاه القارة السمراء؛ فبدلاً من المساعدات الخيرية، بات الخطاب الأميركي يروّج للتجارة والاستثمار، وهي مقاربة تبدو للوهلة الأولى واعدة، لكنها تحمل في جوهرها شروطًا صارمة، ورؤية أميركية أحادية تهدف إلى الهيمنة الاقتصادية المستدامة.
ترامب نفسه أعلن في القمة أن الدول الأفريقية الخمس تمتلك مقدرات هائلة، من وفرة في الأراضي والمعادن واحتياطات البترول، إلى شعوب غنية بالإمكانات. هذا الخطاب يشي بتحوّل من «التنمية عبر المساعدات» إلى «الاستثمار الانتقائي»، حيث تحدد واشنطن ما يناسبها من ثروات وتختار الوجهة التي تخدم مصالحها الاستراتيجية.
كنز القارة الأفريقية في مرمى الشركات الأميركية
شكّل عرض القادة الأفارقة لثروات بلدانهم أبرز مشاهد القمة. الرئيس الموريتاني «محمد ولد غزواني»، وكذلك الرئيس الغابوني «برايس كلوتير أوليجوي»، تحدثا بإسهاب عن ثراء بلديهما بالمعادن الأرضية النادرة مثل المنغنيز، اليورانيوم، الليثيوم، ما يجعل منها جاذبة للشركات الأميركية الباحثة عن بدائل لإمداداتها من الصين وروسيا.
كذلك، فإن الموقع الجغرافي لكل من موريتانيا والسنغال على المحيط الأطلسي يمنحهما ميزة استراتيجية، ويعزز من إمكانية تحويلهما إلى محاور لوجستية رئيسية للتجارة الأميركية في أفريقيا مستقبلاً .ورغم ضآلة حجم التجارة بين الدول الخمس والولايات المتحدة حاليًا، إلا أن الإدارة الأميركية تراهن على هذه الموارد والمواقع كبوابة لتعزيز نفوذها الاقتصادي في المنطقة، وإحلال شركاتها محل منافسين دوليين.
لم تكن إدارة القمة خالية من التعليقات الفجّة والتقاطعات الكلامية التي أطلقها ترامب تجاه ضيوفه، لكن ذلك لم يمنع الأخير من ترسيخ صورته أمام الإعلام والرأي العام بأنه «صانع للسلام» في أفريقيا. إذ أعادت وسائل الإعلام الأميركية، ومن خلفها دوائر صنع القرار في واشنطن، التذكير بأن إدارة ترامب نجحت في التوصل إلى تسوية مرحلية بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وهي إحدى أعقد أزمات القارة.هذه الصورة عزّزها أيضًا اندفاع بعض القادة الأفارقة للمطالبة بترشيح ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام، في مشهد بدا أقرب إلى المجاملة السياسية منه إلى تقدير فعلي للدور الأميركي. ومع ذلك، فإن هذا السرد الإعلامي يُكرّس حضور ترامب دوليًا، ويمنحه مزيدًا من الشرعية في ملف أفريقيا، الذي لطالما مثّل نقطة ضعف للسياسات الأميركية أمام الهيمنة الصينية المتنامية.
القمة لم تكن بمعزل عن صراع النفوذ الدولي في أفريقيا، حيث يتصاعد التنافس بين القوى الكبرى على المعادن والطاقة والمواقع الجغرافية. ففي حين تقترب قيمة التجارة بين الصين وأفريقيا من 300 مليار دولار في 2024، لا تزال الولايات المتحدة تراوح مكانها عند حدود الـ70 مليار فقط.
هذا التفاوت دفع واشنطن إلى تبنّي مقاربة أكثر شراسة، تستهدف تقليص حضور بكين وموسكو. أحد الأمثلة اللافتة هو التوقعات بأن تقلص الصين من وارداتها من المنغنيز من الغابون لصالح الولايات المتحدة. الغابون، التي توفّر وحدها نحو 22% من واردات الصين من هذا المعدن، باتت الآن ساحة للصراع الاقتصادي الأميركي – الصيني، فيما تتكفل الشركات الأميركية بلعب الدور المركزي في عملية الاستحواذ على حصص جديدة.
الأمن والهجرة.. أوراق ضغط إضافية
في سياق توسيع النفوذ، استخدمت الولايات المتحدة ملف الهجرة كورقة ضغط تفاوضية. فقد عرضت على بعض الدول الأفريقية استقبال مرحلي للمهاجرين المرحّلين من أراضيها، مقابل دعم اقتصادي وسياسي مشروط. الغابون وجنوب السودان أعربتا رسميًا عن الموافقة، فيما تقترب رواندا من توقيع اتفاق مماثل.
هذا النموذج يفتح المجال أمام تدخل أميركي مباشر في السياسات الاجتماعية لتلك الدول، من دون تقديم مساهمات ملموسة، بل فقط عبر الضغط المستمر ودفع الأطراف إلى حافة الأزمات، ثم التدخل المشروط والمكلف. إنه أسلوب يُحاكي نماذج التدخل الأميركي في مناطق أخرى من العالم، حيث تُستغل الأزمات لفرض ترتيبات تخدم مصالح واشنطن أولاً.
كشف مضمون القمة عن استعداد بعض الحكومات الأفريقية لتقديم تنازلات كبيرة مقابل الحصول على مظلّة شرعية أميركية. هذه المعادلة غير المتكافئة تعني أن الشركات الأميركية ستحصل على امتيازات ضخمة في قطاعات استراتيجية، مثل التعدين والزراعة والطاقة، في مقابل وعود بمساعدات أو حماية سياسية.
في ظل غياب آليات رقابية فعالة، ستتحول هذه الشراكات إلى أدوات لنهب منظم للثروات، إذ تُصاغ الاتفاقات بعيدًا عن أعين المجتمعات المحلية، وتُترَك الدول لتواجه آثار السياسات المفروضة دون ضمانات حقيقية للعدالة الاقتصادية.
هل من ضمانات للعدالة الاقتصادية؟
رغم أهمية الملفات المطروحة في القمة، لم يتم الكشف عن تفاصيل الاتفاقات التي عُقدت، ما يثير مخاوف من غياب الشفافية في صياغة الترتيبات الاقتصادية والسياسية بين الجانبين. كذلك، فإن غياب المجتمع المدني والمراقبين المستقلين عن المشهد التفاوضي يجعل الاتفاقات عرضة للتحوّل إلى آليات لتمكين النخب الحاكمة على حساب المجتمعات.
في ظل هذه الصورة، تبرز الحاجة الملحّة إلى وضع أطر قانونية واضحة، تضمن توزيعًا عادلًا للعوائد، وتحمي حقوق السكان الأصليين من التهميش والاستغلال.
أفريقيا بين مطرقة المصالح وسندان السيادة
لم تكن القمة الأميركية – الأفريقية المصغّرة مجرد محطة عابرة في العلاقات الدولية، بل مثّلت اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدول الأفريقية على التفاوض بندّية، بعيدًا عن إرث الهيمنة والاستغلال. وبينما تسعى واشنطن إلى تعزيز حضورها في القارة، فإن الأسئلة تظل مفتوحة: هل تملك أفريقيا الإرادة لصياغة شراكات عادلة؟ أم أن الحلم سيظل مؤجلًا لصالح واقع يُعاد فيه إنتاج الهيمنة تحت مسمى الاستثمار؟ في هذا العالم المتغير، لا يكفي امتلاك الثروات، بل يتعيّن على الدول امتلاك أدوات إدارتها وحمايتها، وتوظيفها لصالح الشعوب، لا الشركات العابرة للقارات. وإذا كانت القمة قد فتحت أبوابًا جديدة، فهي أيضًا دقّت ناقوس الخطر بأن أفريقيا، إن لم تتفاوض بشروطها، ستظل في دائرة الاستنزاف.