في عالم يُفترض أن تحكمه المواثيق الدولية، وتُصان فيه حقوق الإنسان تحت مظلة الأمم المتحدة، جاءت الاستقالة الجماعية لأعضاء لجنة التحقيق الأممية في جرائم الاحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة كصفعة على وجه العدالة الدولية. لم تكن هذه الإستقالة مجرد إجراء إداري أو انسحاب روتيني، بل كانت إعلانًا صارخًا عن عجز المنظومة الأممية في مواجهة الضغوط السياسية، وتحديدًا تلك التي مارسها كيان العدو على مدى أشهر طويلة. في لحظةٍ فارقة، قرر ثلاثة من أبرز خبراء حقوق الإنسان في العالم أن يغادروا مواقعهم، بعد أن ضاقت بهم السبل، وتكاثرت عليهم التهديدات، وتآكلت استقلاليتهم.
وجاءت الاستقالة الجماعية لأعضاء لجنة التحقيق الأممية المعنيّة بالأراضي الفلسطينية المحتلة كزلزالٍ سياسي وإنساني هزّ أركان العمل الدولي، وأعاد تسليط الضوء على هشاشة المنظومة الأممية في مواجهة حملات الترهيب والتسييس المتواصل. لم تكن هذه الاستقالة إجراءً روتينيًا، بل كانت صرخةً احتجاجية مدوّية على عجز الأمم المتحدة عن حماية استقلالية لجانها، وفضحًا للواقع المقلق الذي يعيشه من يعمل داخلها حين تصبح الحقيقة عبئًا والعدالة هدفًا بعيد المنال.
هذه التطورات تفتح الباب أمام تساؤلات مصيرية حول مستقبل آليات التحقيق الدولية، وتعكس بوضوح كيف تُدار القضية الفلسطينية في أروقة صنع القرار العالمي كملف ثقيل يُراد له أن يُطوى في صمت، بدلًا من أن يُحلّ وفقًا لمبادئ القانون والعدالة.
لجنة تكشف ما لا يريد العالم سماعه
تأسست لجنة التحقيق الأممية الخاصة بفلسطين في مايو/ أيار 2021، عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بقرار من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. كانت مهمتها واضحة، التحقيق في الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وفي كيان العدو نفسه. على خلاف اللجان السابقة، كانت هذه اللجنة دائمة ، أي أنها لا تنتهي بانتهاء النزاع، بل تستمر في عملها لرصد الأسباب الجذرية للصراع، بما في ذلك التمييز المنهجي والقمع على أساس الهوية القومية أو الدينية.
تكوّنت اللجنة من ثلاثة أعضاء بارزين: نافاني بيلاي، القاضية الجنوب أفريقية والرئيسة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا، وكريس سيدوتي، الخبير الأسترالي في حقوق الإنسان، وملون كوثاري، الباحث الهندي المعروف في قضايا العدالة الاجتماعية. منذ اللحظة الأولى، واجهت اللجنة حملة شرسة من العدو الصهيوني، التي رفض التعاون معها، واتهمتها بالتحيّز، بل ووصفها بأنها “آلية معادية لإسرائيل”.
العدالة تغادر منصتهاق
في يوليو/ تموز 2025، أعلن الأعضاء الثلاثة استقالتهم من اللجنة، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ لجان التحقيق الأممية. جاءت الاستقالة بعد أشهر من الضغوط والتهديدات الإسرائيلية، التي لم تقتصر على التصريحات السياسية، بل امتدت إلى حملات تشويه شخصية، وتهديدات أمنية، ومحاولات لتجفيف مصادر التمويل، وحتى فرض عقوبات أميركية على بعض أعضاء اللجنة.
في رسائل الاستقالة، أشار الأعضاء إلى أسباب مختلفة: “بيلاي” تحدثت عن التقدم في السن والمشاكل الصحية، “سيدوتي” اعتبر أن الوقت قد حان لتجديد تركيبة اللجنة، “وكوثاري” عبّر عن “شرفه” في خدمة اللجنة. لكن خلف هذه العبارات الدبلوماسية، كانت الحقيقة أكثر مرارة، اللجنة لم تعد قادرة على أداء مهامها في ظل الحصار السياسي، والتجاهل الدولي، والتواطؤ الصامت من بعض الدول الكبرى.
كيان العدو والضغط المنهجي
منذ تأسيس اللجنة، شنّ العدو الصهيوني حملة منظمة لتقويض عملها. رفضت السماح لأعضائها بدخول الأراضي المحتلة، ووصفت تقاريرها بأنها “معادية للسامية”، واتهمت بيلاي وكوثاري بتبنّي خطاب “اللوبي اليهودي” و”التحريض على الكراهية”. في مارس/ آذار 2024، وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اللجنة بأنها “سيرك معادٍ لإسرائيل”، واتهمها بالتركيز فقط على كيان العدو.
لكن الأمر لم يتوقف عند التصريحات. في فبراير/ شباط 2025، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المقررة الخاصة بالأمم المتحدة لشؤون فلسطين، فرانسيسكا ألبانيزي، بسبب مواقفها المناهضة للعدو الصهيوني. وفي يوليو/ 2025، تم تجميد أصول أعضاء اللجنة في الولايات المتحدة، ومنعهم من دخول البلاد، وتهديد موظفيهم بالاعتقال إذا دخلوا الأراضي الأميركية.
هذه الإجراءات لم تكن مجرد ردود فعل سياسية، بل كانت جزءًا من استراتيجية ممنهجة لتفكيك آليات المساءلة الدولية، وإسكات الأصوات التي تفضح الانتهاكات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية.
اللجنة تصدر تقارير صادمة
جاءت الاستقالة في وقتٍ تشهد فيه غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخها. منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، قُتل أكثر من 58,000 فلسطيني، وأصيب أكثر من 138,000، وفق وزارة الصحة في غزة. تم تدمير المستشفيات، وقُطعت الكهرباء والمياه، وانتشرت المجاعة، وانهارت المنظومة الصحية، وسط حصار خانق ومنع دخول الوقود والمساعدات.
في هذا السياق، أصدرت اللجنة تقارير صادمة، اتهمت فيها كيان العدو بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك استخدام التجويع كسلاح، واستهداف المدنيين، وتدمير البنية التحتية، وارتكاب إبادة جماعية.
لكن هذه التقارير لم تلقَ آذانًا صاغية. مجلس الأمن ظل عاجزًا عن اتخاذ أي إجراء، بسبب الفيتو الأميركي، والأمم المتحدة نفسها اعترفت بفشلها في حماية الشعب الفلسطيني، كما قال المتحدث الرسمي ستيفان دوجاريك: “لقد فشلنا في حماية الفلسطينيين”.
تداعيات الاستقالة
استقالة أعضاء اللجنة ليست مجرد حدث إداري، بل هي مؤشر خطير على انهيار منظومة العدالة الدولية. حين يعجز خبراء مستقلون عن أداء مهامهم بسبب التهديدات السياسية، وحين تُفرض العقوبات على من يطالب بالمحاسبة، فإن ذلك يعني أن النظام الدولي لم يعد قادرًا على حماية الضحايا، ولا على محاسبة الجناة.
الاستقالة تعني أيضًا أن القضية الفلسطينية تفقد واحدة من أهم أدواتها في فضح الانتهاكات، وتوثيق الجرائم، ورفعها إلى المحافل الدولية. ومع غياب اللجنة، تزداد المخاوف من أن الجرائم ستُرتكب دون رقيب، وأن الضحايا سيُنسَون، وأن العدالة ستُدفن تحت ركام السياسة.
الأمم المتحدة في مأزق
الأمم المتحدة، التي تأسست على أنقاض الحرب العالمية الثانية لحماية الشعوب من الإبادة والاحتلال، تجد نفسها اليوم عاجزة عن حماية الفلسطينيين. ميثاقها يُنتهك يوميًا، وقراراتها تُجهَض، ومؤسساتها تُخترَق، وموظفوها يُقتَلون، كما حدث مع أكثر من 320 موظفًا في غزة.
في ظل هذا الواقع، تبرز عدة أسئلة: هل ما زالت الأمم المتحدة قادرة على أداء دورها؟ هل يمكنها أن تفرض العدالة في وجه الدول الكبرى؟ هل تستطيع أن تحمي شعبًا يُذبح أمام أعين العالم؟
الجواب، كما يبدو، هو لا. فالعدالة الدولية باتت رهينة المصالح، والمبادئ تُباع في سوق السياسة، والضحايا يُتركون لمصيرهم، فيما تُدار المؤتمرات وتُكتب البيانات وتُرفع الشعارات.
حين تذوب الحقوق تحت وطأة الحسابات السياسية
في زمنٍ تتضارب فيه المصالح وتُختطف فيه المبادئ الأممية من مراكز القرار، باتت المفارقات هي السائدة في مشهد العدالة الدولية. فالمؤسسات التي وُجدت لتكون حصنًا منيعًا لحماية الكرامة الإنسانية، تتحوّل تدريجيًا إلى منصات عاجزة، تُصمّ آذانها أمام الصراخ الصادر من الشعوب المستضعفة. القضية الفلسطينية، بما تحمله من إرث نضالي وقانوني، تُقدّم اليوم مثالًا حيًا لما يحدث حين تذوب الحقوق تحت وطأة الحسابات السياسية، وحين يُصبح الدفاع عن الإنسان مخاطرةً لا تُحتمل حتى لمن خُصّوا بمهمة الدفاع عنه رسميًا.
في هذا السياق المشحون، تبرز الاستقالة الجماعية لأعضاء لجنة التحقيق الأممية المعنيّة بالأراضي الفلسطينية المحتلة ليس كحدثٍ إداري أو إجرائي، بل كتحوّل نوعي في مسار العلاقة بين العدالة والسلطة، وبين المبادئ والواقع. حين تنكسر العدالة أمام الضغط السياسي، تظهر الحقيقة عاريةً من كل غطاء دبلوماسي، وتبدأ مرحلة الأسئلة الصعبة: من يحمي الحقيقة؟ ومن يُحاسب من يطمسها؟
وهكذا استقالة أعضاء لجنة التحقيق الأممية في جرائم الاحتلال على أرض فلسطين ليست مجرد انسحاب إداري من مهمة وظيفية، بل هي استقالة أخلاقية للضمير العالمي، واستقالة رمزية للعدالة الدولية من ساحة هي في أمسّ الحاجة إليها. إنها لحظة يتجلّى فيها عجز النظام الدولي عن مواجهة القمع والاحتلال، حين يتحوّل القانون إلى ورقة ضعيفة أمام الضغط السياسي، وتُستبدل المبادئ بالمصالح العابرة.