في السابع عشر من شهر يوليو/ تموز 2025، شهدت العاصمة السنغالية دكار لحظة تاريخية لم تكن مجرد حدث عسكري، بل كانت إعلاناً صامتاً عن نهاية فصل طويل من النفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا. في مراسم رسمية حضرها كبار القادة العسكريين من الجانبين، سلّمت فرنسا آخر قواعدها العسكرية في السنغال، منهية بذلك وجوداً دام أكثر من ستة عقود، منذ استقلال البلاد عام 1960 .لم تكن هذه مجرد مراسم بروتوكولية، بل كانت إعلاناً صريحاً بانتهاء فصل طويل من النفوذ الفرنسي في غرب إفريقيا، فصلٌ بدأ مع الاستعمار ولم ينتهِ فعلياً مع الاستقلال، بل استمر متخفياً تحت عباءة التعاون العسكري والشراكة الأمنية.
الجنرال مبايي سيسي، رئيس أركان القوات المسلحة السنغالية، وقف إلى جانب الجنرال باسكال ياني، قائد الجيش الفرنسي في إفريقيا، في مشهدٍ رمزي يعكس تحوّلاً عميقاً في العلاقات الإفريقية-الفرنسية. ومع مغادرة آخر 350 جندياً فرنسياً، أُسدل الستار على وجود عسكري بدأ منذ استقلال السنغال عام 1960، واستمر كأداة للنفوذ الفرنسي في المنطقة.
لكن هذا الانسحاب لا يُقرأ فقط من زاوية الجغرافيا العسكرية، بل من منظور تاريخي وسياسي واقتصادي، يكشف عن عقود من الاستغلال، الهيمنة، وسرقة الثروات الإفريقية تحت غطاء التعاون الأمني. فما الذي يعنيه هذا الانسحاب؟ ولماذا يُعدّ لحظة فاصلة في تاريخ غرب إفريقيا؟ ومن سيملأ الفراغ الذي خلّفته فرنسا؟
من الاستعمار إلى «الشراكة العسكرية»
عندما نالت السنغال استقلالها عام 1960، لم تغادر فرنسا فعلياً. صحيح أن العلم الفرنسي لم يعد يرفرف فوق المباني الحكومية، لكن الجنود الفرنسيين بقوا، والقواعد العسكرية استمرت في العمل، والقرارات السيادية كانت تُتخذ غالباً بالتنسيق مع باريس. القاعدة العسكرية في دكار كانت واحدة من أبرز رموز هذا النفوذ، حيث تمركز فيها مئات الجنود الفرنسيين تحت ذريعة «الشراكة العسكرية العملياتية».
هذه الشراكة، التي روّجت لها فرنسا باعتبارها دعماً للأمن والاستقرار، كانت في الواقع وسيلة لضمان استمرار السيطرة على مفاصل القرار العسكري في السنغال، وللحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في غرب أفريقيا. فوجود القوات الفرنسية لم يكن فقط لحماية السنغال من التهديدات، بل لحماية المصالح الفرنسية من أي تغيّر سياسي قد يهدد نفوذها.
الهيمنة المقنّعة وسرقة الثروات
الوجود العسكري الفرنسي في السنغال وغرب إفريقيا لم يكن بريئاً. بل كان جزءاً من منظومة استعمارية جديدة تُعرف بـ«فرانس أفريك»، وهي شبكة من العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي أبقت فرنسا متحكمة في مستعمراتها السابقة. هذه الهيمنة المقنّعة تجلّت في عدة مظاهر:
السيطرة على الموارد الطبيعية
فرنسا لم تكن مجرد ضيف عسكري، بل كانت مستفيداً اقتصادياً من ثروات إفريقيا. من الفوسفات في السنغال إلى الذهب في مالي، ومن اليورانيوم في النيجر إلى النفط في تشاد، كانت الشركات الفرنسية تحظى بامتيازات ضخمة، غالباً على حساب الشعوب المحلية. هذه الثروات كانت تُستخرج وتُنقل إلى أوروبا، بينما بقيت المجتمعات الإفريقية تعاني من الفقر والتهميش.
الوجود العسكري الفرنسي غالباً ما ارتبط بدعم أنظمة غير ديمقراطية في المنطقة. ففي حالات كثيرة، تدخلت فرنسا عسكرياً لحماية رؤساء موالين لها، أو لقمع حركات شعبية تطالب بالتحرر الحقيقي. هذا التدخل ساهم في إطالة عمر أنظمة فاسدة، وأعاق تطور الديمقراطية في غرب إفريقيا.
وجود قواعد عسكرية أجنبية على الأراضي الوطنية يُعدّ انتقاصاً من السيادة. ففي حالات كثيرة، كانت القرارات الأمنية تُتخذ في باريس قبل أن تُنفذ في دكار أو باماكو. هذا الوضع خلق حالة من التبعية، وجعل من الصعب على الدول الإفريقية بناء جيوش وطنية قوية ومستقلة.
فرنسا.. سلسلة من الانهيارات الاستراتيجية
لم يكن انسحاب فرنسا من السنغال حدثاً معزولاً، بل جاء في سياق سلسلة من الانسحابات بدأت منذ عام 2022، وشملت مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد والغابون. في كل من هذه الدول، واجهت فرنسا تحديات متزايدة، سواء من الحكومات الجديدة التي جاءت بعد انقلابات عسكرية، أو من الحركات الشعبية المناهضة للوجود الأجنبي. في مالي، على سبيل المثال، تم طرد القوات الفرنسية بعد توتر سياسي مع الحكومة العسكرية، التي اتجهت نحو تعزيز علاقاتها مع روسيا. وفي بوركينا فاسو والنيجر، تصاعدت الاحتجاجات الشعبية ضد فرنسا، متهمةً إياها بالفشل في مكافحة الإرهاب، وبالتدخل في الشؤون الداخلية. أمّا في تشاد والغابون، فقد تم تحويل القواعد الفرنسية إلى «معسكرات مشتركة» تركز على التدريب، بدلاً من العمليات العسكرية المباشرة.
هذا الانسحاب الجماعي يعكس تحولاً استراتيجياً في السياسة الفرنسية تجاه إفريقيا، إذ لم تعد باريس قادرة على الحفاظ على وجود عسكري دائم في بيئة سياسية وشعبية متغيرة، تطالب بالسيادة الكاملة، وبإعادة تعريف العلاقات الدولية بعيداً عن الإرث الاستعماري.
إفريقيا تعيد رسم خارطة تحالفاتها
انسحاب فرنسا من السنغال ومن دول أخرى في غرب إفريقيا لا يمكن فهمه بمعزل عن التحولات الجيوسياسية الكبرى التي تشهدها القارة. فإفريقيا اليوم لم تعد ساحة نفوذ حصري للقوى الاستعمارية السابقة، بل أصبحت مجالاً لتنافس دولي متعدد الأقطاب، يشمل الصين وروسيا وتركيا. روسيا، عبر مجموعة فاغنر، دخلت في شراكات أمنية مع عدة دول، بينما تركز الصين على الاستثمار والبنية التحتية. هذه القوى تقدم نفسها كبديل لفرنسا، وتُعد بعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ما يلقى قبولاً متزايداً في إفريقيا.
وكذلك يبرز التعاون الإفريقي-الإفريقي بدلاً من الاعتماد على القوى الخارجية، بدأت دول غرب إفريقيا تبحث عن آليات للتعاون الأمني فيما بينها. منظمات مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) يمكن أن تلعب دوراً محورياً في هذا التحول، عبر إنشاء قوات مشتركة، وتبادل الخبرات.
نحو استقلال حقيقي وسيادة كاملة
انسحاب الجيش الفرنسي من السنغال ليس مجرد حدث عسكري، بل لحظة رمزية تعكس تحوّلاً عميقاً في الوعي الإفريقي. إنه إعلان عن نهاية مرحلة من الهيمنة، وبداية لمرحلة جديدة من التحرر والسيادة. لكن هذا التحول لا يكتمل بمجرد مغادرة الجنود، بل يتطلب بناء مؤسسات قوية، وتعزيز الديمقراطية، واستعادة الثروات المنهوبة.
السنغال، ومعها دول غرب إفريقيا، تقف اليوم على أعتاب مستقبل جديد. مستقبلٌ لا تُرسم ملامحه في باريس، بل في دكار، وباماكو، ونيامي. مستقبلٌ يُبنى بإرادة الشعوب، وبعقول أبنائها، وبقوة جيوشها الوطنية. لقد انتهت حقبة «فرانس أفريك»، وبدأت حقبة «إفريقيا للأفارقة».