في زمنٍ تُقصف فيه الطفولة قبل أن تنطق، ويُنقل الرضّع إلى الملاجئ قبل أن يكتشفوا العالم، تُكتب واحدة من أكثر سرديات المقاومة إنسانية. ليس من جبهات القتال هذه المرة، بل من حضن الأمهات، ومن ذراعي من تُعرف بـ”ماما اختيار”، المرأة التي تحوّلت من موظفة في دار رعاية إلى رمز للبطولة الخفية في 16 يونيو.
وفي زمنٍ تتسابق فيه آلات الحرب لطمس كل ما هو جميل ونقي، تبرز الطفولة كأشد نقاط الضعف وأكثرها قداسة. إنها ليست فقط امتداداً بيولوجياً للحياة، بل رمزاً حياً للأمل، للكرامة، وللمستقبل الذي يُراد له أن يولد قبل أن يُقصف. من مشهد أطفال دار حضانة “آمنة” الذين تحوّلت حضانتهم إلى ملحمة إنقاذ، إلى صرخة “رايان” الرضيع الذي استشهد على مرأى العالم، تكتب الإنسانية فصولها بمقاومة الحضانة، ونبض القصيدة.
إن هذا المقال لا يرثي فقط طفولةً مهددة، بل يُعيد الإعتبار لفعل الحماية كفعل ثقافي، ولفن الرثاء كأداة مقاومة. فهنا، لا تحكي الكلمات عن بطولة القادة فحسب، بل عن بطولات الأذرع الحانية، والقلوب التي اختارت أن تحرس البراءة في وجه الطغيان.
في مقطع قصير انتشر على شبكات التواصل، تسارع النساء والرجال إلى نقل عشرات الأطفال من دار حضانة “آمنة” خوفاً من القصف الصهيوني. لكن خلف هذه الصورة المتسارعة، تمتد ساعة ونصف من الاستنفار العاطفي والميداني، قادتها “ماما اختيار” بلا هلع، بل بإصرار أن لا يُخدش وجه أحد من أطفالها، الذين احتضنتهم طوال ثلاثين عاماً.
وسط أصوات القصف والانفجارات التي هزّت نوافذ الدار، كان صوت بكاء الستين رضيعاً يرتفع جماعياً، كأنهم يُعلنون للمدينة أن الطفولة هنا تُذبح علناً، وأن حماية البراءة مهمة يومية، ليست فِعلاً طارئاً.
المسؤولون عن الدار لم يلتفتوا إلى أوضاع أسرهم في تلك اللحظة، بل واجهوا موجة التهديد برؤية أخلاقية: الأطفال أولاً. عشرات الأطفال نُقلوا إلى مراكز طوارئ مجهزة، احتضنتهم مرافقات وسيدات في وجه الخطر، واستمرت العناية رغم الضغط النفسي الذي ترك أثراً لا يُمحى.
دار حضانة آمنة.. مقاومة غير مسلّحة باسم البراءة
يوم 16 يونيو لم يكن يوماً عادياً في دار حضانة “آمنة” الذي يحتضن الأطفال الرضّع. فيديو مدته دقيقة و13 ثانية اجتاح منصات التواصل، لكنه حمل خلفه ملحمة صامتة امتدت لـ 90 دقيقة من الفزع، الإدارة، والحنان الجارف. في منطقة باتت هدفاً مباشراً للقصف الصهيوني، تحركت مجموعة من النساء والرجال بقيادة “ماما اختيار”، الشخصية التي اختزلت في مشهد واحد معنى التضحية.
هي امرأة لم تكن بطلة في المعارك، بل في الممرات الضيقة للمبنى، وهي تجمع زجاجات الحليب، ملفات الأطفال، والأدوية. رغم أن التحذير وصل فجأة، لم تخبر الموظفين خشية من أن يصيبهم الذعر، وتكفّلت وحدها بإعداد خطة الإنقاذ، كأنها تُعيد ترتيب الحياة تحت الأنقاض.
كل ما حدث في ذلك اليوم كان درساً أخلاقياً في المسؤولية: كيف يُفضّل الإنسان طفولة مجهولة على أمن شخصي. كيف يتحول حضن إلى حصن.
الملاذ الآمن.. العناية أقوى جدران المأوى
بينما انفجرت موجة الصواريخ في المباني المجاورة، نُقل 46 رضيعاً و11 طفلاً دون الثالثة إلى مركزين أكثر تجهيزاً، عبر سيارات إسعاف دارت في شوارعٍ تغلي. مشهد الأطفال النائمين على أرضية السيارات، والنساء اللواتي بكين بلا إرادة، يحمل في داخله من الرمز أكثر مما تحمله الكلمات، فالطفل لا يعرف الحرب، لكنه يشعر بها… في وجه ممرضة، في ارتعاشة حضن، وفي هدير يُصمّ الأذنين.
الطفولة في دار حضانة “آمنة” لم تُحمَ بالقنابل، بل بالمحبة، في لحظة تاريخية ستُكتب يوماً كأحد أرقّ وأعمق وجوه المقاومة المدنية.
«رايان» رمز براءة ذُبحت بصمت العالم
وفي الجهة الأخرى من آسيا، تحديداً في مدينة لاهور، اجتمع شعراء من إيران وأفغانستان وباكستان والهند ليبكوا الطفل الشهيد “رايان قاسميان”، الرضيع الذي لم يبلغ شهره الثاني، واستشهد ضحية للهجوم الصهيوني. الأمسية الشعرية التي حملت عنوان «رايان؛ فلذة كبد إيران»، كانت صرخة أدبية تعبّر عن وجع لا يزول، وجريمة لا تُنسى.
أصغر مسعودي، رئيس البيت الثقافي الإيراني، شبّه الجريمة بممارسات الجاهلية، وقال إن استهداف رايان هو “قمة القسوة والانحدار الأخلاقي”. أما الشاعر الأفغاني حكيم بينش، فاعتبره “رسالة أكبر من عمره الصغير، رايان ذُبح كما ذُبح أطفال أفغانستان، لكنه اختار الرحيل ليبقى شاهداً على صمت العالم.”
في قصائد الأمسية، تم استحضار صورة رايان كـ”عليٍّ أصغر جديد”، و”فرخ يُحرق في العش”، و”دم لا يصمت”، وصورة المرآة التي تتحطم لتتكاثر، رمزاً لولادة وعي جديد في وجه الطغيان.
شعراء ينعون رايان… ويدينون العالم
خلال الأمسية، قدّم عدد من الشعراء نصوصاً مؤثرة استُحضرت فيها رمزية رايان، ووصفت شهادته بأنها أيقونة لفقد الطفولة في ظل عالم يتواطأ بالصمت. ومن أبرزهم الشاعر “عليرضا قزوة” الذي قال: “أنت يا رايان، شهيد وطننا.. بقيت صورتك في عيوننا الدامعة.. بالأمس، كانت كربلاء هنا.. وكنتَ أنت أصغر شهدائنا، كعلي الأصغر.”
ومن جهتها قالت الشاعرة “نغمه مستشار نظامي”: “يُحرق الفرخ في العش.. والعالم صامت، فأين القصاص؟”
وقالت “بروانه نجاتي”: “لالا يا رايان، شهيدي الصغير.. كي لا يضحك قاتل الأطفال.. أحمل حزني إلى سجادتي”.
وقالت “نجمه بور ملكي”: “دم رايان… سيطيح بك أيها الظالم.. هذه الأمة، هذا الشعب، لن يصمت..والمرآة حين تتحطم، تتكاثر…”.
كما شارك في قراءة القصائد شعراء آخرون مثل كميل كاشاني، قاسم باي، سيده كبري حسيني بلخي من أفغانستان، فاطمه ناظري، وعمادالدين رباني، وجاءت قصائدهم زاخرة بالتحدي والرثاء والغضب على صمت المجتمع الدولي.
الشعراء الذين شاركوا في الأمسية، لم يقدّموا مرثيات فقط، بل حفزوا الذاكرة، حرّكوا وجداناً خائراً، وأعلنوا أن الطفولة ليست الهامش، بل قلب القضية.
عندما يتحول الطفل إلى أيقونة ثقافية ليست لمرحلة عمرية فقط، بل تمثيلٌ للضعف المقدس، وللمعنى الذي يجب أن يُحمى قبل أن يُعبّر. في لحظة ينام فيها رضيع على بطانية في ملجأ، وتُكتب قصيدة في لاهور لرجل صغير اختطفته الحرب، يتضح أن المقاومة ليست صراعاً بين متكافئين، بل بين الحياة التي تُولد وتُحتضن… والموت الذي يأتي متنكّراً في صمت المجالس الدولية.
هكذا، يجتمع الميدان والمشهد الشعري في نَفَس واحد؛ مقاومة لا تُسلّحها البنادق، بل تُعمّدها أذرع الأمهات وأقلام الشعراء. من دار حضانة “آمنة” إلى منصة لاهور، تُثبت الطفولة أنها الصوت الأصدق، والحضن الأعمق، وأن الدفاع عنها هو أنبل أشكال المقاومة.
في ظلال “آمنة” ودموع “رايان”، كتبنا هذا المقال كتأريخ للحظة لا يجب أن تمرّ دون حبر، ولا دون صدى. هي لحظة تُشبه الأمة حين تكون في أرقّ حالات عزّتها، وفي أصدق تعبيراتها عن الحب والخوف والنقاء.