من فلورنسا إلى واشنطن

الضمير العالمي يستيقظ.. فلسطين في قلب العاصفة الأخلاقية

خاص الوفاق: رغم القمع فإن التضامن الشعبي العالمي لم يتراجع بل ازداد قوة وتنظيماً،وأضحت المظاهرات في الغرب حركة مقاومة مدنية عابرة للحدود، تعيد تعريف الالتزام الأخلاقي والسياسي تجاه فلسطين

ما بين الحراك الشعبي والضغط الأكاديمي، تتجلى ملامح تحوّل جذري في موقف المجتمعات الغربية تجاه الاحتلال الصهيوني، ففي الجامعات الأوروبية والأميركية، لم تعد الأصوات المناصرة لفلسطين خافتة أو هامشية، بل صارت جزءًا أصيلًا من الخطاب المؤسسي والنشاط الطلابي، تتحدى الروايات الرسمية وتطالب بالعدالة والمقاطعة. ومن الشوارع إلى الساحات الافتراضية، يتسع نطاق الدعم الشعبي، حيث تتوالى مظاهرات التأييد، وتتصاعد الدعوات لوقف التعامل مع الكيانات المتواطئة مع الاحتلال، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تُتهم بالتمويل والتغطية السياسية.
هذا المشهد يبرز دينامية جديدة في الوعي الغربي، إذ يتحول التضامن مع فلسطين من مجرد موقف عاطفي إلى نهج عملي يتجسد في المقاطعة الاقتصادية، والتحرك القانوني، والضغط السياسي، وحتى في المبادرات الإنسانية مثل السفن المتوجهة لكسر الحصار عن غزة. إنها لحظة تُعيد تعريف العلاقة بين الضمير العالمي ونضال الشعب الفلسطيني، وتفتح المجال لمرحلة من المساءلة والوضوح الأخلاقي، طال انتظارها.
جامعة فلورنسا.. لا شراكة مع نظام مجرم
في يوليو/ تموز 2025، أعلنت جامعة فلورنسا الإيطالية قطع علاقاتها الأكاديمية مع عدد من مؤسسات كيان العدو، استجابةً لمطالب أكثر من 500 أكاديمي وطالب. القرار لم يكن وليد لحظة، بل جاء بعد سلسلة من الاحتجاجات الطلابية والنداءات الأخلاقية التي طالبت الجامعة بالتحرك.
شملت المقاطعة أقسامًا علمية مثل الرياضيات والهندسة وعلوم الحاسوب والزراعة، وأبرز جامعات الكيان الغاصب التي تم إنهاء التعاون معها كانت جامعة «بن غوريون» في النقب. هذا القرار جاء بعد خطوات مماثلة من كلية ترينيتي في دبلن، التي قطعت علاقاتها الأكاديمية والتجارية مع مؤسسات صهيونية احتجاجًا على الانتهاكات في غزة.
الجامعات الغربية.. من الحياد إلى المقاومة الأكاديمية
الجامعات الغربية لم تعد تكتفي بالمراقبة، بل أصبحت جزءًا من الحراك. في إيطاليا، نظم طلاب جامعة فلورنسا مظاهرة احتجاجية ونصبوا خيامًا في الحرم الجامعي، مطالبين بإنهاء «الإبادة الجماعية» في غزة. جامعات في روما، ميلانو، نابولي، بولونيا، وتورينو شهدت فعاليات مشابهة، بعضها استمر لأيام، وتحولت ساحات الجامعات إلى منصات تضامن.
في الولايات المتحدة، واجه الطلاب المؤيدون لفلسطين ضغوطًا شديدة، وصلت إلى حد التهديد بحرمانهم من فرص العمل بعد التخرج. ومع ذلك، شهدت جامعات مثل هارفارد، كولومبيا، وستانفورد اعتصامات طلابية، ورفعت فيها شعارات تطالب بوقف الدعم العسكري لكيان العدو. في بريطانيا، إيرلندا، فرنسا، وإسبانيا، نظّم الطلاب اعتصامات داخل الحرم الجامعي، مطالبين بقطع العلاقات الأكاديمية معه، واعتبروا أن المؤسسات الأكاديمية يجب أن تكون صوتًا للعدالة لا شريكًا في القمع.
الشارع الأوروبي والأمريكي.. فلسطين في القلب واللافتات
في برلين، خرجت مظاهرات تحت شعار «فلسطين ليست للبيع»، وندد المتظاهرون بإرسال السلاح إلى كيان العدو. في باريس، طالب المحتجون برفع الحصار عن غزة، ورفعوا لافتات تدين حرق القوات الصهيونية لمخازن المساعدات. في مدريد، دعا البرلمان الإسباني إلى تعليق اتفاقية الشراكة مع كيان العدو، منتقدًا المعايير المزدوجة في التعامل مع القضايا الدولية.
في الولايات المتحدة، شهدت مدن مثل نيويورك، واشنطن، وشيكاغو مظاهرات ضخمة تطالب بوقف الدعم العسكري لكيان العدو. ورغم القيود، استمرت الفعاليات، وشارك فيها آلاف النشطاء، من بينهم أكاديميون، صحفيون، وفنانون. هذه التحركات لم تكن مجرد تعبير عن الغضب، بل كانت محاولة لتغيير السياسات، والضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه الاحتلال.
أكثر من 34 ألف فعالية تضامنية في أوروبا
وثّق المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام تنظيم أكثر من 34 ألف مظاهرة وفعالية تضامنية مع فلسطين في 644 مدينة موزعة على 20 دولة أوروبية، منذ بدء الحرب في غزة. هذا الرقم يعكس حجم التأييد الشعبي المتزايد للقضية الفلسطينية، ورفض السياسات الصهيونية. الدول الأكثر نشاطًا كانت ألمانيا، إسبانيا، إيطاليا، فرنسا، والسويد، وشملت الفعاليات مظاهرات، وقفات احتجاجية، مؤتمرات، مهرجانات ثقافية، عروض فنية، وندوات أكاديمية.
الضمير العالمي يواجه الحصار
في مشهدٍ يعكس تصاعد الضمير العالمي، أبحرت سفينة «حنظلة» من ميناء غاليبولي الإيطالي في 20 يوليو 2025، ضمن حملة دولية تهدف إلى كسر الحصار الصهيوني المفروض على قطاع غزة. السفينة، التي تحمل اسم الشخصية الرمزية التي ابتكرها الفنان الفلسطيني ناجي العلي، ضمّت على متنها 21 ناشطًا من جنسيات متعددة، بينهم 6 أميركيين، من ضمنهم الممثل والناشط الحقوقي جاكوب برغر، الذي وصف مشاركته بأنها «فرصة لكسر الحصار عن غزة»، مؤكدًا أن «الظلم لا يمكن السكوت عنه».
رحلة «حنظلة» لم تكن مجرد تحرك رمزي، بل جاءت وسط حرب إبادة جماعية ومجاعة تهدد حياة المدنيين في غزة. وقد تعرضت السفينة لمحاولتين تخريبيتين قبيل انطلاقها، ما اعتبره المشاركون محاولة لتعطيل مهمتها الإنسانية. رغم ذلك، ظلّت المعنويات عالية، والتصميم على الوصول إلى غزة أقوى من أي تهديد.
هذه المبادرة تأتي امتدادًا لسفن سابقة مثل «مادلين»، التي أُوقفت في يونيو الماضي من قبل بحرية كيان العدو، وتم اعتقال النشطاء على متنها.
الغرب يضغط على كيان العدو عبر المقاطعة
المقاطعة الاقتصادية أصبحت أداة فعالة في الضغط على كيان العدو. سلسلة «كو-أوب» البريطانية أوقفت استيراد أكثر من 100 منتج للكيان، منها الجزر والبطاطس، بعد تصويت 73% من أعضائها لصالح المقاطعة. متاجر في ألمانيا، بلجيكا، السويد، والنرويج بدأت برفض منتجات الكيان، حتى تلك التي لا تأتي من المستوطنات.
في النرويج، أُغلقت الحدود فعليًا أمام البضائع الصهيونية، وفي اليابان، أبلغت شركات التعبئة الإسرائيلية أن المجتمع الياباني أصبح ينظر إلى المنتجات الكيان بشكلٍ سلبي. هذه التحركات لم تكن فقط شعبية، بل شملت أيضًا قرارات حكومية، إذ طالبت تسع دول أوروبية المفوضية الأوروبية بوقف التجارة مع مستوطنات الكيان الغاصب.
السؤال هنا هل يُحدث هذا الحراك فرقًا؟ استطاع الضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر صرامة تجاه كيان العدو، وكشف ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الدولية. والمقاطعة الأكاديمية والاقتصادية تؤثر على سمعة هذا الكيان عالميًا، وتُضعف قدرته على ترويج روايته الرسمية. التضامن الشعبي يُعزز الوعي بالقضية الفلسطينية، ويُعيدها إلى واجهة النقاش السياسي والإعلامي في الغرب.
 الحكومات الغربية تقمع المتعاطفين مع غزة
رغم اتساع رقعة التضامن الشعبي في الغرب مع غزة، فإن هذا الحراك يواجه مقاومة ممنهجة من الحكومات الغربية، التي تسعى إلى كبحه أو تشويهه. هذه المقاومة لا تأتي فقط عبر الخطاب السياسي، بل تتجلى في سياسات قمعية، إعلام منحاز، وملاحقات قانونية تستهدف كل من يرفع صوته من أجل فلسطين.
في الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، وكندا، ظهرت حملات تضييق على النشطاء والصحفيين الذين عبّروا عن تعاطفهم مع غزة. بعضهم فُصل من عمله، وآخرون مُنعوا من الظهور الإعلامي، أو خضعوا لتحقيقات داخل مؤسساتهم. في فرنسا مثلًا، أُوقف المذيع غيوم موريس عن العمل بعد تصريحاته المناهضة لنتنياهو، بينما أقالت صحيفة «الغارديان» البريطانية رسام الكاريكاتير ستيف بيل بسبب رسم ينتقد عدوان الكيان المحتل.
أما في الإعلام، فقد كشفت دراسات تحليلية أن الصحف الغربية الكبرى تتجاهل ذكر الضحايا الفلسطينيين، أو تستخدم أوصافًا تُجردهم من إنسانيتهم، مثل «أشخاص تحت سن الثامنة عشرة» بدلًا من «أطفال»، بينما يُمنح الضحايا الصهاينة أوصافًا عاطفية مثل «أم»، «جدة»، أو «طفل رضيع». هذا التحيز اللغوي يُسهم في بناء سردية تُبرر العدوان وتُضعف التعاطف مع الفلسطينيين. في الجامعات، واجه الطلاب الذين نظموا اعتصامات تضامنية تهديدات بالفصل، أو الحرمان من فرص العمل بعد التخرج. في الولايات المتحدة، أُدرجت أسماء بعض الطلاب في قوائم سوداء، وواجهوا ضغوطًا من شركات كبرى لسحب دعمهم لفلسطين. وفي بريطانيا، خضع صحفيو «بي بي سي» العرب لتحقيقات بسبب منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
حتى على مستوى التكنولوجيا، ظهرت تقارير عن استخدام الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لقمع المحتوى المؤيد لغزة، أو تقليل انتشاره. الناشطة أسماء درجة، التي كانت تعمل في «أمازون ويب سيرفيسز»، استقالت بعد أن اكتشفت أن تقنيات الشركة تُستخدم ضمن مشروع «نيمبوس» لتزويد الاحتلال بأنظمة ذكاء اصطناعي لأغراض عسكرية.
ورغم هذه السياسات القمعية، فإن التضامن الشعبي لم يتراجع، بل ازداد قوةً وتنظيمًا. فالمظاهرات في الغرب لم تعد مجرد تعبير عاطفي، بل تحولت إلى حركة مقاومة مدنية عابرة للحدود، تُعيد تعريف الالتزام الأخلاقي والسياسي تجاه فلسطين، وتُطالب بمساءلة الحكومات والشركات المتواطئة مع الاحتلال.
المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة