في زمنٍ تتكاثر فيه الأزمات ويضيق فيه الأمل، جاءت كلمات البابا ليو الرابع عشر كنداءٍ إنسانيٍّ صارخٍ من قلب الفاتيكان، لتخترق جدران الصمت وتصل إلى غزة، حيث تحوّلت الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة هناك إلى هدفٍ عسكريٍّ في حربٍ لا ترحم. لم تكن هذه الكلمات مجرّد تعبير عن الحزن، بل كانت إعلانًا أخلاقيًا ضد ما وصفه بـ«وحشية الحرب»، في لحظةٍ تداخل فيها الدين والسياسة والدموع، وتكشّفت فيها مأساة المدنيين الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم وسط نيران لا تفرّق بين مسجد وكنيسة، بين طفلٍ وكاهن.
في صباح يوم الخميس، السابع عشر من تموز/يوليو 2025، استيقظ سكان مدينة غزة على وقع غارة صهيونية استهدفت مجمع كنيسة العائلة المقدسة، الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في القطاع. لم يكن الهجوم مجرد حادث عرضي، بل كان ضربة موجعة للمجتمع المسيحي المحلي، الذي لطالما اعتبر الكنيسة ملاذًا روحيًا ومكانًا للسلام وسط الفوضى. أسفر القصف عن استشهاد ثلاثة أشخاص، بينهم أفراد من الرعية، وإصابة كاهن الكنيسة، الأب جبرائيل رومانيلي، بجروح في ساقه.
البطريركية اللاتينية في القدس، المشرفة على الكنيسة، أصدرت بيانًا عبّرت فيه عن «ألمها العميق»، مؤكدة أن «لا شيء يبرر استهداف المدنيين الأبرياء»، ودعت إلى إنهاء هذه «الحرب الهمجية» التي لا تفرّق بين مقدّسات وأرواح.
البابا ليو الرابع عشر يدعو لوقف الحرب
في أعقاب الهجوم، خرج البابا ليو الرابع عشر عن صمته، وأطلق نداءً مؤثرًا من ساحة القديس بطرس، إذ قال: «في قطاع غزة، تتعالى صرخات الأمهات والآباء، الذين يحتضنون بشدة جثامين أبنائهم القتلى، إلى السماء». لم تكن هذه الكلمات مجرد تعزية، بل كانت دعوة صريحة إلى وقف الحرب، واحترام القانون الإنساني، ومنع العقاب الجماعي والاستخدام العشوائي للقوة.
البابا، لم يكتفِ بإدانة القصف، بل طالب المجتمع الدولي بتحمّل مسؤولياته، مؤكداً أن حماية المدنيين ليست خيارًا، بل واجبًا أخلاقيًا وقانونيًا. كما عبّر عن تضامنه مع الطائفة المسيحية في غزة، قائلاً: «أنتم في قلب البابا والكنيسة جمعاء».
المجتمع الدولي يتحرّك ببطء
رغم تكرار الحديث عن «القانون الدولي» و«الالتزام الأخلاقي»، فإن الاستجابة الدولية لم تكن بمستوى المجازر التي تتزايد يومًا بعد يوم في غزة، إذ يواجه السكان حصارًا خانقًا، وانهيارًا شبه كامل للبنية التحتية، وانعدامًا في المساعدات الطبية والغذائية. في هذا السياق، أعلن وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، عن دخول وفد كنسي إلى غزة، يتقدّمه بطريرك القدس اللاتيني، الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، والبطريرك الأرثوذكسي ثيوفيلوس الثالث، حاملين معهم 500 طن من المساعدات الإنسانية التي قدمتها كنائس القدس. هذه الخطوة كانت بمثابة استجابة عملية من الكنيسة، بعد قصف أبرشية العائلة المقدسة، لكنها لم تكن كافية، لأن الحاجة في غزة لم تعد إنسانية فقط، بل أصبحت وجودية.
جيش الكيان يتجاهل القوانين الدولية
اعترف جيش الاحتلال الصهيوني بأن «شظايا إحدى القذائف سقطت عن طريق الخطأ» على الكنيسة الكاثوليكية في غزة أثناء العمليات القتالية. هذا الاعتراف، رغم وقاحته، يفتح بابًا من الأسئلة: كيف يمكن اعتبار استهداف منشأة دينية مأهولة بالسكان «خطأً»؟ وما هو حجم الخطأ حين يسقط ثلاثة شهداء ويُصاب الكاهن وتسعة آخرون داخل مكان يُفترض أن يكون آمنًا؟! هذا الاعتراف، وإن حمل طابعًا تقنيًا، إلا أنه ألقى الضوء على تجاهل صارخ للقوانين الدولية التي تمنع استهداف المدنيين ودور العبادة. ورغم التبريرات الرسمية، فإن ما حدث لا يمكن عزله عن سياق الحرب الصهيونية الشاملة التي تستخدم القوة المفرطة والأسلحة التدميرية في مناطق سكنية، وتحاصر غزة بكل الوسائل، من الماء إلى الكهرباء إلى الهواء الذي يتلوث بالدخان والموت. ولم يكن القصف الذي طال الكنيسة حدثًا منفردًا في عدوان يوليو/ تموز، بل جزءًا من سلسلة متواصلة من الانتهاكات التي طالت المستشفيات، والمدارس، والمساجد، ومراكز الإيواء. لكن استهداف الكنيسة يحمل بُعدًا رمزيًا خاصًا، لأنه يبعث برسالة أنّ لا شيء في غزة آمن، حتى أماكن العبادة التي يفترض أن تكون محصّنة ضد جنون الحرب.
وفد الكنائس إلى غزة .. رسالة تضامن وتحدٍ
وصول بيتسابالا وثيوفيلوس الثالث إلى غزة حمل بُعدًا إنسانيًا وروحيًا كبيرًا. التقى الوفد الكنسي بالمجتمع المسيحي المحلي الذي يعاني من التهميش، ووقف على معاناة أبناء الرعية الذين فقدوا أحبّاءهم في القصف، ونقل لهم دعم الكنيسة العالمية وصلوات المؤمنين في أصقاع الأرض. كان دخول وفد الكنائس إلى غزة رسالة تحدٍ للظروف، ورسالة تضامن للمجتمع الدولي، مفادها أنّ المساعدات الإنسانية وحدها لا تكفي، بل يجب أن تُرفق بتحرّك دبلوماسي وموقف أخلاقي صارم ضد سياسة العقاب الجماعي الذي يمارسه الكيان بحق سكان غزة.
صورة الكيان تتهشم عالميًا
الهجوم على الكنيسة الكاثوليكية لم يكن مجرد حادث عسكري، بل لحظة مفصلية في إعادة تشكيل صورة كيان العدو عالميًا. فبينما كان يروّج لنفسه كدولة ديمقراطية تحترم الأديان، جاء هذا الهجوم ليكشف عن تناقض صارخ بين الخطاب والممارسة. الإدانات الدولية لم تتأخر، إذ عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن «إدانته الشديدة»، مشيرًا إلى أن الكنيسة تقع تحت «الحماية التاريخية لفرنسا»، فيما وصف دونالد ترامب ما حدث بأنه «خطأ جسيم».
الفاتيكان وتل أبيب.. علاقات على المحك
الهجوم على الكنيسة لم يمر مرور الكرام في أروقة الفاتيكان، إذ عبّر البابا ليو الرابع عشر عن «حزنه العميق» ودعا إلى «وقف فوري لإطلاق النار».
نتنياهو، لم ينجح في تبديد القلق المتزايد داخل الفاتيكان، الذي شدّد على ضرورة حماية أماكن العبادة والسكان المدنيين، وأكّد أن الكنيسة «لن تصمت أمام الانتهاكات المتكررة». وقد بدأت بعض الجهات الكنسية في أوروبا بإعادة تقييم علاقاتها مع كيان العدو، وسط دعوات لتجميد التعاون الديني والثقافي حتى يتم ضمان احترام المقدسات.
المسيحيون.. أقلية صامدة في وجه العاصفة
يعيش في غزة نحو ألف مسيحي فقط، بعد أن كان عددهم يتجاوز 3000 قبل عام 2007. ينتمي معظمهم إلى طائفة الروم الأرثوذكس، بينما يتبع البقية الكنيسة الكاثوليكية. ورغم الحصار والحروب، ظلوا جزءًا لا يتجزأ من النسيج الفلسطيني، يتشاركون الحياة والمصير مع المسلمين، ويعملون في التعليم والطب والصياغة وغيرها من المهن.
استهداف الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة لم يكن مجرد حادث عسكري، بل كان ضربة موجعة لهذه الأقلية. وقد عبّر الأب جبرائيل رومانيلي، كاهن الكنيسة المصاب، عن حزنه العميق، مؤكدًا أن «الكنيسة ستبقى، والمسيحيون لن يغادروا أرضهم مهما اشتدت المحن».
ردود الفعل من الكنائس العالمية لم تتأخر. فقد عبّر مجلس الكنائس العالمي عن إدانته الشديدة، داعيًا إلى إنهاء الاحتلال والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. كما أصدرت الكنيسة الكاثوليكية في مصر والكنيسة الكلدانية بيانات تضامن، أكدت فيها أن «الدماء التي سُفكت في الكنيسة هي دماء مقدسة، لا يمكن أن تُنسى».
وفي أوروبا، بدأت بعض الكنائس بإعادة تقييم علاقاتها مع كيان العدو، وسط دعوات لتجميد التعاون الديني والثقافي، حتى يتم ضمان احترام المقدسات. وقد دخل الكاردينال بيتسابالا إلى غزة في زيارة إنسانية نادرة، مؤكدًا أن «الوجود المسيحي في غزة سيبقى، مهما حدث».
في خطاب مؤثر أمام ممثلي الكنائس الكاثوليكية الشرقية، عرض البابا ليو الرابع عشر مبادرة جديدة بعنوان «لتصمت الأسلحة»، تهدف إلى التوسط بين الأطراف المتحاربة في العالم، من غزة إلى أوكرانيا، ومن لبنان إلى تيغراي. قال البابا: «الحرب ليست حتمية أبدًا، والأسلحة يمكن ويجب أن تصمت، لأنها لا تحلّ المشاكل بل تفاقمها».
هذه المبادرة ليست مجرد دعوة رمزية، بل تعكس استعداد الفاتيكان للعب دور فعّال في الوساطة، مستندًا إلى تاريخه الطويل في دعم السلام، ومكانته كدولة ذات علاقات دبلوماسية واسعة، وكرسي رسولي يحظى باحترام عالمي.
الهجوم يُعيد طرح سؤال سياسي جوهري: هل ما زالت أماكن العبادة محمية بموجب القانون الدولي؟ وهل يمكن الفصل بين الأحداث «العسكرية» والرسائل الرمزية التي تنقلها هذه الهجمات؟ فالاعتداء على الكنيسة شكّل ضربة لهيبة الاتفاقيات الدولية، وانتهاكًا صارخًا لمبادئ حقوق الإنسان.