في بلدٍ لا تُقرأ فيه القصيدة فقط بل تُرتّل بالدمعة والصوت، يبرز فن قراءة المراثي الحسينية الإيراني كواحد من أكثر الفنون الدينية فاعلية، يتجاوز الإنشاد إلى تشكيل وجدانٍ جماعي يربط الماضي بالحاضر. الرادود في الثقافة الإيرانية ليس مجرد منشِد، بل هو حامل لراية كربلاء، وصوت ينقل الإمام الحسين(ع) من التاريخ إلى وجدان الأمة.
في إيران، لا تُعتبر المراثي مجرد طقوس موسمية تُمارَس في محرم وصفر، بل هي فن حيّ يشكل نسيجاً وجدانياً وهوية قومية ودينية. صوت الرادود، بما يحمله من شجن واستحضار للمأساة الكربلائية، يتحول إلى خطاب ثقافي يحمل مضامين المقاومة والعدل، ويجدّد في كل بيت إيراني صرخة “يا حسين(ع)” التي لم تخفت منذ أكثر من ألف عام.
وهنا نستذكر كبار تاريخ المراثي الحسينية في ايران مثل الحاج مرزوق الحائري الكربلائي والحاج اكبر ناظم والحاج صادق آهنكران والحاج احمد دلجو والحاج اسماعیل جاووش والحاج شاه حسین بهاري والحاج محمد كوثري و الحاج محمد علّامة و…
مع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل، انفتح هذا الفن على جماهير أوسع، خاصة بين الشباب، الذين باتوا يبحثون عن مداحين يعكسون وجدانهم وأحلامهم وقضاياهم.
هذا المقال يستعرض التحوّلات التي طرأت على فن قراءة المراثي الحسينية، ويقدّم قراءة في سِيَر أبرز الرواديد المعاصرين، الذين جعلوا من الصوت الحسيني جسراً للمقاومة والتجدد والهوية.
فن قراءة المراثي الحسينية في سياقه التاريخي والوجداني
فن قراءة المراثي الحسينية، يُعد أحد أعرق الفنون الشفوية في إيران. منذ العصر البويهي وحتى ما بعد الثورة الإسلامية، مرّت قراءة المراثي الحسينية بتحولات مفصلية جعلته أكثر من طقس ديني. لقد بات منبراً للتأويل، وساحة للمقاومة، ومصدراً لتشكيل الوعي الجمعي.
في العصر الصفوي، ترسّخت مكانة قراءة المراثي الحسينية بصدور أعمال مثل مراثي الشهداء، وفي العهد القاجاري توسعت أساليبه لتشمل عناصر مسرحية ك “الشبيه خواني والتعزية”. أما في العصر البهلوي، فقد حوصر فن قراءة المراثي الحسينية سياسياً، لكنه ظل نابضاً في القرى والمجالس السرية، ليعود ويزدهر في السنوات التي أعقبت انتصار الثورة الإسلامية.
تنوع الأساليب وثراء الأداء
لا تنحصر أساليب قراءة المراثي الحسينية المعاصرة في الإلقاء التقليدي، بل تشمل نماذج متنوعة مثل: أسلوب “شور” الذي يُشعل اللطميات الحماسية، أسلوب “زمزمه” الرصين الذي يناسب المجالس الليلية، قراءة المراثي الحسينية العربية للتواصل مع الجمهور الإقليمي، المزج الموسيقي الذي تُبدع فيه شخصيات مثل حسين سعادتمند، عبر دمج الموسيقى الإيرانية الكلاسيكية بالمراثي.
هذا التنوع يعكس مرونة الخطاب الحسيني، وقدرته على مخاطبة أجيال مختلفة، وعلى التكيّف مع المنصات الرقمية والجماهيرية الحديثة، ويجعل قراءة المراثي الحسينية مساحة للتفاعل والتجديد المستمر.
الرادود في الثقافة الإيرانية
في زوايا الحسينيات، وعلى منصات المحافل الدينية، يتعالى صوت الرادود الإيراني كترنيمة للوجدان الجمعي، وموسيقى الذاكرة المغموسة في عشق كربلاء. بين المراثي واللطميات، لا يُكتفى بالبكاء على الماضي، بل يُعاد تشكيله كخطاب ثقافي حي، يَنفذ إلى عمق الهوية الإيرانية ويجدّد عهد الأمة مع قيم الشهادة والعدالة.
الرادود في الثقافة الإيرانية ليس مجرد منشِد، بل هو حارس للذاكرة، وناقل للرسالة الحسينية عبر الأجيال. إن توليفه بين الصوت، الشعر، والمسرحة الدينية يجعله فاعلاً تربوياً ومقاوماً في آنٍ واحد. هذا الفن تطوّر من شكل الطقس الشعائري إلى خطاب فكري وجمالي يمتزج فيه التراث بالتأويل.
وجوه قراءة المراثي الحسينية في العقدين الأخرين
في السنوات الأخيرة، برز عدد من الرواديد الذين تجاوزت شهرتهم حدود المنبر، وأصبحوا رموزاً ثقافية ودينية، منهم:
– منصور أرضي: يُعد من حيث الخبرة والإتقان، المداح الأكبر في طهران، وقد تتلمذ على يديه العديد من قرّاء المراثي الحسينية المعروفين اليوم. اشتهر بقراءة دعاء كميل في معسكر “دو كوهه” في انديمشك، ونال شهرة من خلال مرثية “مدینه شهر بیغمبر”.
– حسين فخري: من مداحي فترة الدفاع المقدس، يُعدّ صاحب أول أداء لأنشودة “محمد نبودي ببیني”، ويتميّز بإتقانه للّغة العربية والفارسية على حدّ سواء.
– محمود كريمي: وُلد في أسرة متدينة، واستشهد والده خلال الحرب الصدامية المفروضة، مما شكّل وجدانه المبكر. بدأ قراءة المراثي الحسينية منذ الطفولة، ويتميز بأسلوبه العاطفي والتصاعدي، كما في مرثية أخي عطشان. يجمع بين الشعر والدراما ويُعرف بدروسه الروحية عبر الأداء، وذاع صيته في طهران ومشهد، مستمداً من تجربة الفقد الشخصي (استشهاد والده) ومنهجية حسينية صادقة.
– سيد مجيد بني فاطمة: صوت عذب، يرتكز على البساطة الشعرية والوجدانية. مرثيته “يا حسين مظلوم” تؤكد على مظلومية الامام الحسين(ع) بأسلوب تأملي. صاحب صوت شفاف يحمل الوجدان الجماعي، ويقود هيئة “ريحانة الحسين(ع)” وسط حضور نخبوي من رياضيين وممثلين.
– سيد رضا نريماني: من أصفهان، ارتبط اسمه بالمدافعين عن المقدسات عبر مرثية “منم باید برم”، ويجمع بين الصوت العذب والعمل الخيري.
– ميثم مطيعي: رادود عرفاني ثوري، يدمج القضايا السياسية المعاصرة في المراثي، درس في جامعة الإمام الصادق(ع). يستخدم الشعر التأويلي لربط كربلاء بالقضايا المعاصرة. مرثيته “تا خدا؛ منزل به منزل با حسین(ع)” تُجسد المسار العرفاني الحسيني.
– مهدي رسولي: يُعد من الشباب الثوريين في الصف الأول للثورة، وله علاقة صداقة قوية مع الحاج ميثم مطيعي. وُلد بمدينة زنجان، ويحمل شهادات في الهندسة المدنية، وإدارة الشؤون الثقافية، وماجستير في علوم القرآن والحديث من جامعة دار الحديث. هو ابن شهيد، وله أخ واحد يُدعى محمد. نال شهرة كبيرة من خلال إنشاده في حسينية “أعظم زنجان”، وله نوحات مشهورة مثل “الله أكبر این همه جلال”. تُقام معظم مراسمه حالياً في نفس الحسينية، وله أيضاً سجل في الإنشاد أمام القيادة.
– حسين سعادتمند: برز في مدينة يزد، وابتكر أسلوباً جديداً في اللطميات، يمزج بين الموسيقى الإيرانية التقليدية والمراثي، وسُجل أسلوبه رسمياً ضمن التراث الثقافي غير المادي لإيران.
كما أنه نريمان بناهي وعبدالرضا هلالي ومحمد رضا طاهري وحسين سيب سرخي وجواد مقدم ومهدي سلحشور و.. يشكلون خطاً جماهيرياً متنوعاً يجمع بين الشباب والتجربة، في مختلف مناطق البلاد.
المراثي الحسينية تُدرج في التراث غير المادي
في عام 2023 م، سجّلت وزارة الثقافة الإيرانية المراثي الحسينية ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي الوطني، في اعتراف رسمي بأن هذا الفن ليس مجرد طقس، بل موروث شفهي جماعي يحمل ذاكرة الأمة ويفيض برموز الهوية الدينية والإيرانية.
المراثي الحسينية؛ جسر بين الماضي والحاضر
تبقى قراءة المراثي الحسينية في إيران فصلاً مفتوحاً من تاريخ الوجدان. إن صوت “يا حسين(ع)” لا يُنشد للبكاء فحسب، بل يُستعاد كنداء للعزة، للعدالة، ولإحياء المبادئ في وجه النسيان والقهر. وفي كل صوت رادود، يُروى الحسين من جديد، ليبقى حياً في قلوب الملايين.
الرادود؛ الصوت والضمير
فن قراءة المراثي الحسينية في إيران هو منبر للذاكرة الحية، ولغة للمقاومة الشعورية والجمالية. في كل رادود يُستعاد صوت الإمام الحسين(ع)، لا كمرثية على الماضي، بل كدعوة دائمة للعدل، التوحيد، والكرامة. الصوت الإيراني حين ينشد “يا حسين(ع)”، يُعيد تشكيل التاريخ، ويُذكّر بأن الفن ليس رفاهية، بل رسالة.